مداد القلم

رسالة (أخرى) إلى عانس

عزمت في أحد الأسابيع أن تكون خطبة الجمعة عن (ظاهرة العنوسة .. الأسباب والحلول)، وهي حلقة في سلسلة (فقه الأسرة)، فبدأت أجمع المادة العلمية وأقرأ ما كتب عنها، فاستوقفني ما لمسته من طرح (بعض) الفضلاء من تضخيم وشدة حول هذا الموضوع، سواء كان مكتوبا أو مسموعا في خطبة أو محاضرة أو لقاء عبر وسائل الإعلام، فأردت أن أكتب رسالة أخرى غير تلك الرسالة.

وبدءا فإنني أعتذر عن استعمال هذه الكلمة الثقيلة على النفس (عانس) – رغم أنها صحيحة في اللغة – لولا شيوعها، إلا أنني لا أحب أن آتي ما كان سببا في جرح المشاعر وتكدير الخواطر.

يجب أولا أن نفرق بين صورتين:

الأولى : فتاة تقدم لها الأكفاء فتردهم، لأنها تعيش نوبة من الغرور بسبب جمالها أو مالها أو حسبها أو مواهبها أو مؤهلها العلمي، وتضع نفسها في برج عاجي، وترى أن فارس أحلامها لم يأت بعد، فتعيش المسكينة في وهم الغرور، ولا تصحو منه إلا وقد تركها الخطاب.

أو فتاة أخرى تأثرت بوسائل الإعلام، وما تبثه المسلسلات والأفلام أنه لا بد أن تتزوج الفتاة بعد قصة حب رومانسية، فتعيش في وهم الخيال، وأحلام اليقظة، وأفلام الهوليود.

فهي في هذه الصورة ملومة مخطئة، وعلى نفسها جنت براقش.

 

الثانية : فتاة عفيفة تتمنى سكن الزواج، وطعم الأمومة، ولكن لم يتقدم لها أحد، أو تقدم من لا يصلح، حتى تقدمت بها السن ولم تتزوج، فهي راضية بالقضاء، صابرة على البلاء.

فإلى هذه الثانية أوجه رسالتي هذه:

أختاه ..

الزواج ليس كل شيء في الحياة، فلا تحجري واسعا. لقد خلقت لهدف عظيم: عبادة الله، فانشغلي بها، وكفى بها شغلا.

يمكن أن تعيشي في سعادة وهناء، وطمأنينة وصفاء ولو لم تتزوجي!.

من العجيب أن بعض الفتيات تصرف كل تفكيرها في الزواج، تفكر في الصباح والمساء، والحضر والسفر، والصيف والشتاء، وكأنه لا شيء في الحياة سوى الزواج!، فتحرق زهرة عمرها، ونضرة شبابها!.

أيتها الأخت .. هناك لآلئ ثمينة في أعماق البحار لم يهتد إليها غواص، أنت واحدة منهن.

تعلقي بالله، وتضرعي إليه، وتذرعي بالصبر والرضا، وأكثري من ذكر الله

بذكر الله ترتاح القلوب *** ودنيانا بذكراه تطيب

 

السعادة الحقيقية والنعيم الكامل في الآخرة، وهذه الدنيا طبعت على كدر، لا تصفو لأحد متزوج أو أعزب.

إياكِ إياكِ أن يدب إليك اليأس أو الهم والحزن أو الاكتئاب والقلق.

كم من متزوجة تعيش في جحيم، تصبح وتمسي في هموم وأحزان.

ليس هناك أشباح ولا قطار يفوت، فالأمور تجري بقضاء الله ذي الملكوت.

المسلمة وإن قدر الله عليها تأخر الزواج فدينها وعفافها يحجزها عن كل انحراف وخطأ.

أشغلي وقتك بالمفيد، تزودي من العلم النافع، اكتسبي المهارات المفيدة، اجعلي لك صحبة طيبة.

كريمة بنت أحمد المروزية، عاشت مائة سنة، وماتت لم تتزوج، فهل استسلمت لشبح العنوسة؟!. كلا، فقد اشتغلت بالعلم، حتى صارت إحدى راويات صحيح البخاري، ولها نسخة مشهورة لهذا الكتاب العظيم (نسخة كريمة)، استفاد منها ابن حجر في كتابه الموسوعي (فتح الباري) في أكثر من 230 موضع.

يقول بعض الفضلاء: إن تأخر المرأة عن الزواج، مع كثرة الفتن، وحاجة النفس، ومطلب الغريزة، يدفعها إلى إشباع ذلك بالحرام بالزنا أو السحاق!.

أقول: ربما كان هذا الطرح محركا لبعض الغافلات أن تسلك هذا المسلك، لأنها تجد في نفسها ذلك، وتفهم منه أن لها نوع عذر.

ويقول آخر: إن المرأة إذا تأخرت عن الزواج وهي ترى صاحباتها ومن هن أصغر منها أمهات؛ تجرعت الآلام والغصص، وعاشت حياتها في هموم وأحزان!

وأقول: سبحان الله، أتلومها في أمر لا حيلة لها فيه!

ثم هذه المرأة؛ أليست في كل يوم تصلي سبع عشرة ركعة فريضة، وما شاء الله من النوافل، وتقرأ وردا من القرآن، وتذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وتبر والديها، وتتعلم المفيد، وتتواصل مع أخواتها.

أيسوغ أن يُعد هذا اليوم يوما تتجرع فيه الآلام والهموم، وهي تتقلب في رياض الذكر، وأنواع العبادات؟!

أيتها الأخت .. كل يوم من حياتك كنز ثمين، يوم جديد حياة جديدة، والعمر قصير فلا تقصريه بالهموم والأحزان.

ابذلي كل سبب حسي ومعنوي لهذه النعمة، وإلى أن يأتي الله بالنصيب فاغتنمي عمرك وشبابك، واستثمري وقتك، شاركي في الدور والدورات، والتحقي بركب الأخوات الصالحات، واجتهدي في فعل الخيرات.

ابدأي يومك بصلاة الفجر ثم اشتغلي بذكر الله، ثم تناولي كأسا من عصير البرتقال مع الإفطار الباكر، ثم اشتغلي بأعمالك ومشاريعك بين علم ودعوة، وعبادة وعمل خير وإحسان.

وأخيرا .. لا يفهم من كلامي أني أزهد في الزواج، أو أقلل من أهميته، كلا، فمقصدي ورسالتي واضحة فيما أحسب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى