مداد القلم

بين حسان وحسين (قصة واقعية)

في ليلة قصيرة من ليالي إجازة الصيف، امتد بي السهر فخرجت من المنزل قبيل الفجر، حيث هدوء المكان فأبصرت رجلا يقبل عليَّ، فإذا هو عامل النظافة، ومعه عجلته التي يسير بها، يجمع النفايات وينظف الشوارع، سلمت عليه فرد السلام،

– ايش اسم؟

– محمد حسين.

– كيف حال صديق؟

– الحمد لله – وخرجت من قلبه -، ميَّه ميَّه – قالها ووجهه يفترُّ عن ابتسامة واسعة، وانبساط نفس، وتهلل وجه، يدل على تمام الرضا.

درات الأيام، ومضت سنوات، وفي ليلة من الليالي أجبت دعوة أحد الفضلاء لمناسبة عشاء في بيته، وكان في المجلس أربعة أو خمسة ما بين قريب له وزميل عمل.

دارت شجون الأحاديث وتكلم أحدهم، وكان أستاذا جامعيا في كلية الطب، وطبيبا استشاريا في المستشفى، تحدث عن تسرب بعض زملائه إلى جهات أخرى تمنح مزايا مادية أفضل، ثم قال – بنبرة متأوه متحسر -: ونحن على راتب الحكومة، اللي ما يوكل عيش!!.

خرجت من المناسبة، وقفز إلى ذهني صورة محمد حسين عامل النظافة، وأجريت مقارنة بينه وبين هذا الطبيب، ولنسمه باسم رمزي: (حسان).

1. حسين يعمل في مهنة من المهن الوضيعة عند الناس، وطبيعة عمله بين الأوساخ والنفايات والروائح الكريهة.

وحسان في أرقى المهن عند الناس (طبيب وأستاذ جامعي).

2. حسين يتقاضى راتبا شهريا في حدود 400 ريال دون علاوات أو حوافز ومكافآت، وربما تأخر الراتب أحيانا.

 

أما حسان الطبيب الاستشاري والأستاذ الجامعي فيتقاضى في حدود 30,000 ريال، إضافة إلى العلاوات والحوافز والمكافآت.

3. حسين في غربة، بعيد عن والديه وأولاده وزوجته وأصحابه.

أما حسان فهو في بلده بين أهله وأقاربه وأصحابه.

4. مكان عمل حسين في الشوارع حيث لهيب الحر في الصيف، وصقيع البرد في الشتاء.

 

أما حسان ففي مقرات حديثة مجهزة ومؤثثة ومكيفة، ووفر له مكتب خاص مجهز بما يحتاجه من وسائل الراحة والاتصال والتقنية.

ومع هذا الفارق العظيم والبون الشاسع؛ فقد كان الأثر مختلفا بين حسين الذي يحمد الله ويشكره، ويتهلل وجهه بالرضا والقناعة، وحسان الذي كان يتحسر على حاله، ويشكي للناس واقعه الوظيفي، وراتبه الشهري!.

 

أيها الإخوة .. هذان الموقفان الواقعيان يدلان على أن القناعة والرضا كنز لا يقدر بثمن، وأن السعادة سعادة القلب.

 

قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، جاء عن بعض السلف كعلي رضي الله عنه والحسن البصري أنهم فسروا الحياة الطيبة بالقناعة.

 

وفي الحديث عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقَنَّعَه الله) رواه مسلم، أي جعله قانعًا بما آتاه.

وحينما تطمح إلى زيادة المال، وكثرة الأرصدة؛ فتذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: (اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا!) رواه مسلم

أتدري ما القوت؟

قال النووي في شرح الحديث 7/ 146: “القوت: ما يسد الرمق، وفيه فضيلة التقلل من الدنيا، والاقتصار على القوت منها، والدعاء بذلك”.

 

أخي الكريم .. هل تعيش في أمن وعافية؟ وعندك ما تأكله اليوم؟

إن كان جوابك: نعم، فأنت تملك الدنيا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا) رواه الترمذي وحسنه الألباني

وقال صلى الله عليه وسلم: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) رواه الترمذي وحسنه الألباني

خطب النُّعْمَانَ بن بشير يوما فقال: ذَكَرَ عُمَرُ رضي الله عنه مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ دَقَلاً يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ. رواه مسلم (الدقل: هو ردئ التَّمر ويابِسُه!)

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبِيتُ اللَّيَالِي الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا، وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً. رواه الترمذي وحسنه الألباني (طاويا أي جائعا).

 

أخي الحبيب .. إننا بحاجة إلى من يذكرنا بهذه المعاني لقوة الغفلة، وكثرة الحرص وتعلق القلب بهذه الدنيا وحطامها، حتى ألهتنا عن الآخرة والتزود لها، ولو أجريت مسحا سريعا على مجالس الناس اليوم، لبان لك الأمر.

 

 وما أحسن وصية سفيان الثوري حين قال: إنما يفسد عليك قلبَك مجالسةُ أهل الدنيا وأهل الحرص. حلية الأولياء (7/ 47)

 

أسأل الله أن يرزقنا القناعة والرضا، وأن يغنينا بفضله عمن سواه، والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى