مداد القلم

دعاة صامتون!

قد يبدو العنوان متناقضا، فالدعاة يعرفون على أعواد المنابر، وعبر المحاضرات والقنوات، يعلمون ويرشدون ويصدعون، فكيف يكون الداعية صامتا؟!

وأستأذنكم أن يكون الجواب عبر هذه الأمثلة:

1) ياسر شابٌ على مشارف العشرين، يكسوه صمتٌ وهدوءٌ يميز شخصيته.

عرفه جيرانه في المسجد ليس بالمحافظة على الصلاة فحسب، بل هو مع ذلك سباق مبادر، وما إن ينتهي الأذان إلا وتراه خارجا من بيته يراوح الخطا بسكينة ووقار، ثم يدخل بيت الله فيصلي ركعتين بخشوع وتأن، ثم يشتغل بالتلاوة والذكر والدعاء حتى تقام الصلاة.

وهو مع ذلك طلق المحيا، براق الثنايا، بشوش الوجه مع جماعة المسجد والجيران، يبدؤهم بالسلام، ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم.

أبو محمد أحد جماعة المسجد في أواخر الأربعينات من عمره، يتأخر في المجيء إلى الصلاة، فأثر فيه ما يراه من حال ياسر، وصار في حديث مع نفسه: ألست أولى أن أكون مثله وهو في سنِّ أحد أبنائي؟ ما عذري في التقصير وهذا الشاب بهذا الحرص والمواظبة؟.

والمؤذن أبو عبدالله صار يحكي خبر ياسر لأولاده وأقاربه وأصحابه.

وفي المسجد ثلة من الشباب استرعاهم حرص ياسر ومواظبته وعبادته.

لقد كان عمل ياسر أبلغَ تأثيرا من عشرين خطبة في فضل التبكير والحرص على صلاة الجماعة.

2) أسماء فتاة شابة جمع الله لها بين الدين والخلق، فهي متفانية في خدمة والديها، حريصة على حجابها، متميزة بحيائها، ومع ذلك فهي تحضر المناسبات، وتحتفي بالحاضرات في سلامها وتبسمها وطيب حديثها ومعشرها.

ولها عادة راتبة، أن تعمد إلى فائدة أو مقطع أو تذكير فترسله إلى قائمة الأسماء في جوالها.

لقد لفتت الأنظار بين الأقارب والجيران بدينها وحيائها وأدبها، وبعدها عن الملذات والشهوات رغم حداثة سنها.

لقد قدمت أسماء رسالة أبلغ في التأثير من عشرات الخطب والمحاضرات.

3) أسامة؛ قارب الثلاثين ولم يتزوج، وعليه دين أرهق كاهله، فاضطره ذلك إلى الغربة في بلد ليعمل في شركة كبرى يعمل فيها أكثر من مائة موظف.

كان أسامة مثالا للموظف المثالي الناصح المخلص في عمله، مع حسن التعامل مع زملائه ومديره.

ذات يوم دعاه المدير إلى مكتبه، وأخبره عن مناقصة حكومية كبرى، لكن عليه أن يتواطأ مع المسؤول في تلك الجهة الحكومية في تزوير الأرقام والتلاعب بالعقود، وأن العائد لأسامة من هذه المناقصة مبلغ يكفي لسداد دينه، وتكلفة زواجه.

كانت توقعات المدير أن يطير أسامة فرحا بهذه الفرصة التي لا تتكرر في العمر إلا مرة، لكن حدث ما لم يتوقع، رفض أسامة العرض واعتذر عن الدخول في الموضوع، وأنه لا يمكن أن يسعى في طريق الحرام.

اندهش المدير، وانتشر الخبر إلى أفراد الشركة كلهم، فكان هذا الموقف أبلغَ من عشرات الخطب والمواعظ في التحذير من أكل الحرام.

أرأيتم أيها الإخوة .. ياسر ، أسماء ، أسامة

كانوا دعاة مؤثرين، دون أن يتكلموا بكلمة.

كانوا دعاة وليس عندهم علم شرعي، ولا أسلوب خطابي.

وقبل ذلك .. دعونا نرجع إلى الوراء، كيف دخل الإسلام إلى جنوب شرق آسيا، وأجزاء من أفريقيا؟

لقد كان ذلك بسبب التجار المسلمين الذين كانوا مثالا في الصدق وحسن المعاملة.

لم يكونوا علماء ولا دعاة بالمعنى المتبادر، لكنهم دعاة بأفعالهم، فأثروا أيما تأثير.

أيها المسلم/ة:

يمكنك أن تكون داعية مؤثرا، ولو لم يكن لديك علم ولا أسلوب ولا جرأة على الحديث.

يمكنك ذلك بفعلك وامتثالك وحسن تعاملك.

وفقك الله ونفع بك ،،

‫3 تعليقات

  1. بضدها تعرف الأشياء …
    تعرفت إلى شخص ألماني يعمل بالمملكة كمستشار إداري. تجاذبت معه أطراف الحديث حول الإسلام، ووجدته مهتما بالأمر، ولديه بعض القراءات والمعلومات عن الإسلام والمسلمين …
    ولكن – صدق أو لا تصدق – كان الحاجز الذي حال بينه وبين أن ينشرح صدره للإسلام هو حالة المرور في مدينة الرياض في الصباح، في وقت ذهاب الموظفين لأعمالهم.
    الأسلوب العنيف في القيادة، الخالي من التراحم والتسامح، أدى إلى تكوين انطباع لديه بأن هذا هو حال المسلمين في تعاملاتهم كلها، وجعله يتوهم أن السبب في ذلك هو تعاليم الإسلام نفسها.
    لا شك أن استنتاجه خاطئ، ولا شك أيضا أننا – بسلوكياتنا المناقضة لروح التسامح والتراحم التي جاء بها الإسلام – كنا دعاة فاشلين، أو قل سلبيين، فنفرناه من الإسلام.
    نعم شيخي الحبيب .. صدقت.
    السلوك المنضبط بضوابط الإسلام وأخلاقياته السامية هو خير وسيلة للدعوة.
    والسلوك المنفلت من أخلاقيات الإسلام هو شر منفر، وأسوأ داعية.
    أحسن الله إليكم، وجزاكم عنا خيرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى