فضائل بيت المقدس
الحمد لله الولي الحميد، الكريم المجيد، يبدأ الخلق ويعيد، من أطاعه فهو السعيد، ومن كفر به فهو الطريد البعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله جاء بالحق والنهج السديد أما بعد
عباد الله .. اتقوا الله
أيها الناس .. إنَّ الله سبحانه وتعالى هو المنفردُ بالخلق والاختيار، كما قال تعالى {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ما كان لهم الخيرة} [القصص: 68]، فمن ذلك أنه فضل بعض البشر على بعض كالأنبياء والرسل، وفضل بعض الأزمان على بعض كشهر رمضان وعشر ذي الحجة ويوم عرفة ويوم الجمعة وليلة القدر، وفضل بعض الأمكنة على بعض كالمسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وكل هذا بعلمه وحكمته جل وعلا.
ونظرا لما يعانيه أهلنا في أرض الإسراء من خطب عظيم وكرب أليم، ولعدم علم البعض بفضل تلك البقعة المباركة المغتصبة المدنسة، فلعلي أتحدث إليكم اليوم عن فضائل بيت المقدس.
بيت المقدس هو المسجد الأقصى([1]) في مدينة القدس، قال تعالى }سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله{ [الإسراء: 1], وسمي الأقصى بمعنى البعيد لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، فلم يكن وراءه مسجدٌ آخر في الأرض، ويسمى بيت المقدس أي المطهِّر من الذنوب، والمطهَّر من الأصنام ونحوها.
فمن تلك الفضائل:
أولا: أنه ثاني مسجد وضع في الأرض
المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، لحديث أبي ذر [رضي
الله عنه] قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: «المسجد الحرام». قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصله، فإن الفضل فيه»([2]).
والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار، ثم جدده سليمان بن داود عليه السلام ([3]).
ثانيا: أنه قبلة المسلمين الأُولى
فقد كانت القبلة إلى المسجد الأقصى لمدة ستة أو سبعة عشر شهراً قبل نسخها وتحويلها إلى الكعبة ببلد الله الحرام، ففي الصحيحين عن البراء بن عازب
[رضي الله عنه] قال: صليت مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم صرفنا إلى القبلة ([4]). وأشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى : }وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ..{ [البقرة: 143]، بل ذكر بعض أهل العلم أن المسجد الأقصى كان قبلة ومتوجهاً لعدد من الأنبياء السابقين قبل الإسلام في الصلاة.
ثالثا: البشرى بفتحه
وذلك من أعلام النبوة أن بَشَّر النبي [صلى الله عليه وسلم] بفتحه قبل أن يُفتح ببضع عشرة سنة، كما جاء عن عوف بن مالك قال: أتيت النبي
[صلى الله عليه وسلم] في غزوة تبوك وهو في قبة من أَدَم، فقال: «اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس .. الحديث ([5]).
وإنما فتح بيت المقدس في عهد عمر [رضي الله عنه] سنة 15 هـ بعد موته [صلى الله
عليه وسلم] بأربع سنين.
رابعا: البركة حوله
فهي أرض القداسة والبركة، لا تكاد تذكر في كتاب الله إلا مقرونة بوصف البركة أو القداسة، قال تعالى عن المسجد الأقصى: {سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} [الإسراء: 1]، وقال تعالى على لسان موسى عليه السلام: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة..} [المائدة: 21], وهي “بيت المقدس” وما حولها، وقال تعالى حكاية عن الخليل إبراهيم عليه السلام في هجرته الأولى إلى بيت المقدس وبلاد الشام: {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} [الأنبياء: 71]، وقال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضْعَفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} [الأعراف: 137], أي: وأورثنا بني إسرائيل الذين كانوا يُستَذَلُّون للخدمة مشارق الأرض ومغاربها وهي بلاد الشام التي باركنا فيها.
وفي قصة سليمان عليه السلام يقول سبحانه وتعالى:{ولسليمان الريح عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} [الأنبياء: 81]، وعند حديث القرآن عن هناءة ورغد عيش أهل سبأ يقول سبحانه: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرةً} [سبأ: 81]، وهي قرى بيت المقدس كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ([6]).
ومن بركته: أنه أفضل المساجد بعد الحرمين الشريفين.
وأنبه على خطأ شائع بين الناس وهو تسمية المسجد الأقصى بثالث الحرمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : “والأقصى: اسم للمسجد كله ، ولا يُسمى هو ولا غيره حرماً ، وإنما الحرم مكة والمدينة خاصة”([7]). فالمسجد الأقصى أولى القبلتين، ومسرى رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]، والأرض المباركة.
ومما يدل على بركته وشرفه: ما جاء عن أبي ذر [رضي الله عنه] مرفوعا: “ليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه – أي حبل فرسه – من الأرض حيث يَرى منه بيتَ المقدس خير له من الدنيا جميعاً”([8]).
ويدل على بركته أيضا: أن موسى عليه السلام سأل الله تبارك وتعالى عند الموت أن يدنيه منها، كما جاء عن أبي هريرة
[رضي الله عنه] عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أن موسى لما جاءه الموت سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال
[صلى الله عليه وسلم]: فلو كنت ثمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر”([9])،
وقال تعالى: }وجعلنا ابنَ مريم وأمّه آيةً وآويناهما إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعينٍ{ [المؤمنون: 50]، قال الضحاك وقتادة: هو بيت المقدس، قال ابن كثير: وهو الأظهر ([10]). وقوله }ربوةٍ ذات قرارٍ ومعينٍ{ أي: مكان مرتفع من الأرض، مستوٍ للاستقرار عليه، فيه خصوبة وماء جار ظاهر للعيون .
خامسا: فضل الصلاة ومضاعفته
وقد وردت في ذلك أحاديث منها: عن أبي ذر [رضي الله عنه] قال: تذاكرنا – ونحن عند رسول الله- أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أَم بيت المقدس؟ فقال رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]: «صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً». قال: أو قال: «خير له من الدنيا وما فيها»([11]).
وفي الحديث أن صلاةً في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاةً فيما سواه عدا مسجدي مكة والمدينة ([12]).
وعن أبي الدرداء [رضي الله عنه] قال : قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة ([13]).
وعن عطاء الخراساني قال: بيت المقدس بنته الأنبياء، ووالله ما فيه موضع شبر إلا وقد سجد فيه نبيٌّ.
ومما يدل على فضل الصلاة فيه ما رواه عبد الله بن عمرو عن النبي [صلى الله عليه
وسلم] قال: «لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وألاّ يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاة فيه إلاّ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، فقال رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] : «أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة»([14]), ولأجل هذا الحديث كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي من الحجاز، فيدخل فيصلي فيه، ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء مبالغةً منه لتمحيص نية الصلاة دون غيرها، لتصيبه دعوة سليمان عليه السلام.
سادسا: استحباب زيارته وشد الرحال إليه
فقد اتفق أهل العلم على استحباب زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، وأن الرحال لا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد منها المسجد الأقصى، لحديث أبي هريرة
[رضي الله عنه] أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: ” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا”([15]).
سابعا: الحث على المقام فيه
فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: “ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمُهم مهاجرَ إبراهيم”( [16]) – والحديث فيه بقية -.
ثامنا: نزول عيسى ومقتل الدجال
ففي صحيح مسلم عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ [رضي الله عنه] أن النبي [صلى
الله عليه وسلم] حدثهم عن الدَّجَّالَ بحديث طويل، إلى أن قال: ” .. فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين – قال النووي: معناه لابس مهرودتين أي ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران – واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ([17]).
واللد([18]) مدينة معروفة في فلسطين.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله ..
تاسعا: الإسراء والمعراج.
فقد أسري به [صلى الله عليه وسلم] بجسده وروحه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بنص القرآن، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى السموات العلى.
عن أنس بن مالك [رضي الله عنه] أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: ” أُتيتُ بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، قال: فركبت حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل عليه السلام: أصبت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء ([19]).
وجاء في بعض الروايات أنه صلى إماما بالأنبياء في بيت المقدس([20]).
ومن فضائل بيت المقدس: أن الله بشر زكريا بيحيى عليهما السلام فيه، وسخر الله لداود الجبال والطير في بيت المقدس، ويهلك الله يأجوج ومأجوج في بيت المقدس، وولد عيسى عليه السلام في المهد في بيت المقدس، ورفعه الله إلى السماء منها، وينزل من السماء فيها ليقتل المسيح الدجال.
ولقد حرص السلف من الصحابة فمن بعدهم على شد الرحال إلى تلك البقعة المباركة، حتى أن عمر بن الخطاب
[رضي الله عنه] سار من المدينة إلى بيت المقدس وهو خليفة المسلمين.
فنسأل الله أن يطهر تلك الأرض المباركة المقدسة من رجس اليهود الذين دنسوها قبل أكثر من ستين سنة، وعاثوا فيها فسادا وخرابا، بمحاولة إحراقه وهدم أساساته، ونحن في هذه الأيام نتابع بألم يعتصر القلب ويقرح الكبد ما يفعلونه هناك من دمار وتخريب وقتل وتشريد وتجويع،
مصـــــــاب له الدنيا تقـــــــوم وتقعد *** له يتنزى الأمـــــس واليوم والغــــد وشعب أسير أثخن الجرح صدره *** يمــــوج به طام من الخطب مزبد |
فنسأله أن يخلصها من شرهم وبغيهم، وأن يرزقنا فيه صلاة قبل الممات.
ونسأل الله أن يهيئ لها من صالحي عباده من يقيم شرع الله ويحكم بكتابه في تلك الأرض المباركة، كما أخبر النبي
[صلى الله عليه وسلم] بذلك فيما رواه أبو حوالة الأزدي [رضي الله عنه] قال: وضع رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: (يا ابن حوالة: إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة, فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك)([21]).
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد القهار، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله القوي الكبير المتعال، اللهم إنا نسألك يا مجري السحاب، يا منزل الكتاب، يا هازم الأحزاب، أن تهزم اليهود، وأن تردهم على أدبارهم صاغرين، اللهم زلزلهم، وألقي الرعب في قلوبهم، وشردهم، واجعلهم وأموالهم وأنفسهم غنيمةً للمسلمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً
([1]) وله أسماء أخرى منها: مسجد إيلياء، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 27/ 11 : “المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام ..”.
([2]) رواه البخاري: (3366), ومسلم: (520).
([3]) ذكره ابن القيم في الزاد: (1/50).
([4]) رواه البخاري: (4492), ومسلم: (525).
([6]) تفسير الطبري: (19/ 386).
([7]) إقتضاء الصراط المستقيم: (2/ 346).
([8]) رواه الحاكم: (8553), أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في وصَحِيح التَّرْغِيبِ: (1179).
([9]) رواه البخاري: (1339), ومسلم: (2372).
([10]) تفسير ابن كثير: (5/477).
([12]) رواه الطحاوي في “مشكل الآثار” كما في “تحفة الأخيار”: (432). والطبراني في “الأوسط”: (6983, 8230). والبيهقي في “شعب الإيمان”: (3849), وذكره الهيثمي في “مجمع الزوائد”: (4/ 7). وقال: “رواه الطبراني في “الأوسط”، ورجاله رجال الصحيح”. وصححه الألباني في تمام المنة: (ص 294).
([13]) رواه البيهقي في الشعب: (3845), وقال في مجمع الزوائد: (3/675): “رواه الطبراني في الكبير .. وهو حديث حسن”، وضعفه الألباني في تمام المنة: (ص293)، وانظر الإرواء: (4/342). ورواه ابن عدي: (7/ 2670), من حديث جابر رضي الله عنهما، قال الحافظ في التلخيص (4/437): إسناده ضعيف.
فائدة: اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي فضل الصلاة في المسجد الأقصى. ينظر: الثمر المستطاب: (2/545 , 546)، تمام المنة: (ص293), كلاهما للألباني، والتبرك للجديع: (ص126).
([14]) رواه ابن ماجه: (1408), وأحمد: (6644), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2090).
([15]) رواه البخاري: (1189), ومسلم: (1397).
([16]) رواه أبو داود: (2482), وصححه الألباني في الصحيحة: (3203).
([18]) قال النووي في شرح مسلم (18/ 68).: “بِضَمِّ اللَّام وَتَشْدِيد الدَّال مَصْرُوف، وَهُوَ بَلْدَة قَرِيبَة مِنْ بَيْت الْمَقْدِس. فنهاية الدجال في ذلك المكان حول بيت المقدس”
([20]) ينظر: صحيح مسلم (172) .
([21]) رواه أبو داود: (2535), وأحمد: (22487), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (7838).