الشتاء والبرد
الشتاء والبرد
الحمد لله مصرفِ الدهور والأعوام، ومقلبِ الليالي والأيام، الملكِ القدوس السلام، والصلاة والسلامُ على خير من صلى وصام، وجاهد في سبيل الله وقام، أشهد أن لا إله إلا الله الملكُ العلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضلُ الرسل الكرام، صلى الله وسلم عليه تسليما مزيدا إلى يوم القيام أما بعد
عباد الله .. اتقوا الله حق التقوى بفعل أوامره واجتناب زواجره {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم .. عظيم }[الأحزاب: 70].
أيها الأخوة .. لقد أظلنا هذه الأيام فصلُ الشتاء، وحل البرد، وهبت رياح الشمال بنسماتها الباردة وسياطها اللاذعة.
وإن تقلّب الزمانِ وتصرفَ الأحوال من حرٍّ إلى قَر، ومن صيف إلى شتاء؛ إنما هو بحكمة الله وتصريفه، ومن دلائل قدرته وربوبيته {يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} [النور: 44].
وهذا الموسم السنوي الذي أطل علينا؛ فيه أحكامٌ وآداب أعرضها عليكم في هذه الوقفات التي يحسن بكل مسلم أن يتعلمها ويعمل بها.
الوقفة الأولى: شدة برد الشتاء تذكر بزمهرير جهنم.
نعم أيها الإخوة، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: “اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين كل عام، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير” [ رواه البخاري: (3260), ومسلم: (617). ] .
والمراد بالزمهرير شدةُ البرد .
هذا الحديث له وقع في نفوس المتقين! وتأثير على قلوب المؤمنين! يحسون بذلك حينما يلسع البردُ أجسامَهم أن شدة البرد من آثار نَفَس جهنم، فيتذكرون الزمهرير، فيزيدُهم ذلك إيماناً وتوبة وإقبالاً على رب العالمين.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظامَ بردُها فيسألون الحر” [لطائف المعارف: (333).] .
وكما أن شدة البرد من عذاب الآخرة فقد عذب به قوم في الدنيا، وهم قوم عاد، قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8].
والريح الصرصر هي: ريح باردة شديدة الهبوب، سلَّطها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، لا تَفْتُر ولا تنقطع، فترى القوم في تلك الليالي والأيام موتى كأنهم أصول نخل خَرِبة متآكلة الأجواف. فنعوذ بالله من عذابه في الدنيا والآخرة.
الوقفة الثانية: وقت المسلم في الشتاء.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى لله عليه وسلم قال: “الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصام، وطال ليله فقام” [ رواه أحمد: (11716), والبيهقي في الشعب: (3655), واللفظ له. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: (3430)] . وضعفه الألباني، ولكن معناه صحيح.
وعن عامر بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى لله عليه وسلم قال: “الصيام في الشتاء الغنيمةُ الباردة” [رواه الترمذي: (797), وأحمد: (18959) واللفظ له, وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (3868)] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “مرحباً بالشتاء، تنزل فيه البركة، أما ليله فطويل للقائم، وأما نهاره فقصير للصائم” [لطائف المعارف: (327).]. وبكى معاذ رضي الله عنه عند موته، وقال: “إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر” [حلية الأولياء: (2/ 88)، سير أعلام النبلاء: (4/ 19).] .
قال ابن رجب رحمه الله: (وإنما كان الشتاء ربيعَ المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسّرة فيه، كما ترتع البهائم في المرعى الربيع، فتسمنُ وتصلحُ أجسادُها، فكذلك يصلحُ دينُ المؤمن في الشتاء بما يسَّر الله فيه من الطاعات) [لطائف المعارف: (326).] .
هذه المواسم تمر وتنقضي وهي من أعمارنا، والموفق من اهتبل الفرص واغتنم المواسم، واتعظ بمرور الأيام والليالي، والمغبون من انفرطت أوقاتُه، وضاعت ساعاتُه
مضى الدهر والأيام والذنب حاصلُ | *** | وجاء رسولُ الموتِ والقلبُ غافل |
نعيمك فى الدنيا غرور وحسره | *** | وعيشك فى الدنيا محال وباطل |
الوقفة الثالثة: التساهل في بعض أمور الطهارة.
وهذا يحصل من بعض المسلمين؛ التقصير في إتمام الوضوء لكثرة الملابس في الشتاء، أو التقصير في الغُسل وتعميم الجسد بالماء، أو التقصير في الاستنجاء بعد قضاء الحاجة بسبب شدة البرد. وهذا خطأ يجب التنبه والتنبيه له، وقد مر النبي صلى لله عليه وسلم على قبرين فقال: “إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر – وفي لفظ: (لا يستبرئ) – من بوله” [رواه البخاري: (218), ومسلم: (292). وما بين القوسين للنسائي: (2068) وصححها الألباني في صحيح النسائي. عن ابن عباس رضي الله عنهما.] .
ويلاحظ أن بعضَ الناس لا يرفعون أكمامهم عند غسل اليدين رفعا كاملاً، وهذا يؤدي إلى أن يتركوا شيئًا من طرف الذراع بلا غسل وهو محرم، والوضوء معه غير صحيح، فالواجب أن يرفع كمه إلى ما وراء المرفق ليعمم العضو بالغسل.
ومن الفضائل: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط” [رواه مسلم: (251).] .
قال القاضي عياض رحمه الله : (إسباغ الوضوء تمامه، والمكاره تكون بشدة البرد وألم الجسم ونحوه).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: “أتاني الليلةَ ربي في أحسن صورة فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات، ونقل الأقدام للجماعات، وإسباغ الوضوء في السبرات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه” [رواه الترمذي: (3233), وأحمد: (3484), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (59).] . والسبرة شدة البرد.
قال ابن رجب رحمه الله: (إسباغ الوضوء في شدة البرد من أعلى خصال الإيمان، روى ابن سعد بإسناده: أن عمر رضي الله عنه وصَّى ابنه عند موته فقال له: يا بني عليك بخصال الإيمان قال: وما هي؟ قال: الصوم في شدة الحر أيام الصيف، وقتل الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي) [لطائف المعارف: (328).] .
ولا بأس بتسخين الماء للوضوء.
ومن أخطاء بعض المسلمين في الشتاء فيما يتعلق بالطهارة الجهل بأحكام المسح على الخفين، أو المسح على الجبيرة أو على الشاش واللواصق التي توضع على الجروح، وهذه لها خطبة مفردة إن شاء الله.
ومن الملحوظات التي ينبه عليها في موسم الشتاء أن بعض المصلين يتلثم ويغطي فمه، وهذا من مكروهات الصلاة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى لله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه [رواه أبو داود: (643) واللفظ له, وأحمد: (7921), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (6883).] . إلا إن كان بالمرء علةٌ أو حاجة فترتفع الكراهة حينئذ.
ولا بأس بلبس القفازين ولو في الصلاة، وليس مانعا من السجود على الأعضاء السبعة كما يظنه البعض، كما أن الركبتين من الأعضاء السبعة وهي مستورة.
الوقفة الرابعة: الحذر والتوقي من البرد.
وهذا من أخذ الأسباب المشروعة لحفظ النفس ودفع أذى البرد عنها بما يسره الله من لباس أو مدفأة أو غيرهما، قال تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} [ النحل: 5].
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهد عماله، وكتب لهم بالوصية: (إن الشتاء قد حضر، وهو عدوٌ فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارا ودثارا، فإن البرد عدوٌ سريع دخوله، بعيد خروجه) [لطائف المعارف: (330).] .
ومما ينبغي التنبيه عليه أن بعض الناس يعمد إلى إشعال الحطب للتدفئة والاستمتاع بها، وهؤلاء نحذرهم من النوم وترك النار وهي مشتعلة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: “احترق بيت في المدينة على أهله، فحُدِّث النبيُ صلى لله عليه وسلم بشأنهم فقال: “إن هذه النار إنما هي عدوٌ لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم” [رواه البخاري: (6294), ومسلم: (2016). ] .
وعن ابن عمر أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: “لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون” [رواه البخاري: (6293), ومسلم: (2015).] .
قال الحافظ ابن حجر: وحكمة النهي هي خشية الاحتراق، ثم قال: “قيده بالنوم لحصول الغفلة به غالبًا، ويستنبط منه أنه متى وجدت الغفلة حصل النهي” [فتح الباري: (11/ 86).] .
بارك الله لي ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله …
الوقفة الخامسة: تذكروا الفقراء في أيام الشتاء.
أيها الإخوة .. إننا نعيش في نعمة قلَّ من ينعم بها في هذا العالم، فيأتي الشتاء ويحل البرد القارس، ولا نجد في ذلك معاناةً أو ضررا يشق علينا، فالملابس الثقيلة بأنواعها، والمدافئ والأطعمة والأشربة، وأدفئت البيوت بالعزل، وأدفئ الماء بالسخانات، وحتى الهواء أدفئ بأجهزة التكييف، نصبح ونمسي في نعمة ورغد من العيش، لا نحس بشدة الحر في الصيف، ولا بقسوة البرد في الشتاء، فاحمدوا الله واشكروه بقلوبكم وألسنتكم وأعمالكم، كما قال تعالى في سورة النحل التي تسمى سورة النعم {وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ ٱلاْنْعَـٰمِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَـٰمَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـٰثاً وَمَتَـٰعاً إِلَىٰ حِينٍ * وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَـٰناً} [النحل: 81].
وعن أنس رضي الله عنه قال صلى لله عليه وسلم: “ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمدُ أفضلَ من تلك النعمة” [رواه الطبراني في الكبير: (7794), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (5562).] .
ولكن مع هذا: هل تذكرنا من حولنا من الفقراء من أقارب أو جيران، أو من عموم المسلمين، هل تذكرنا عاملا يتلوى في غرفته لا يجد المدفأة أو البطانية التي تقيه شدة البرد؟ هل تذكرنا عامل النظافة الذي يجوب الشوارع في الفجر والليل البارد، ولا يجد ما يكفيه مما يقيه من البرد، مع فقره وحاجته؟.
هل تذكرنا إخوانا لنا في الدين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ممن هدمت بيوتهم أو دمرتهم الحروب أو أدقعهم الفقر؟.
أين أخوة المؤمن لأخيه: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ..) [رواه البخاري: (6011), ومسلم: (2586). عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍرضي الله عنه .] .
وقال صلى لله عليه وسلم: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم” [رواه البخاري: (2486), ومسلم: (2500). عَنْ أَبِي مُوسَىرضي الله عنه .] .
وقال صلى لله عليه وسلم: “من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له” [رواه مسلم: (1728). عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّرضي الله عنه .] .
كَانَ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى إِذَا أَمْسَى تَصَدَّقَ بِمَا فِي بَيْتِهِ مِنَ الفَضْلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ جُوْعًا فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِهِ، وَمَنْ مَاتَ عُرْياً فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِه).
قوموا بواجب الأخوة الدينية، وواسوهم بما تستطيعون، فالمصاب عظيم، والخطب جلل، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
اللهم ..