خطب الجمعةخطب نصية

الوضوء فضله وأحكامه

إن الحمد .. اتقوا الله ..

عباد الله .. لقد بعث الله رسوله محمدا صلى لله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فجاء بشريعة الإسلام الكاملة الشاملة لكل ما يحتاجه المرء في عقيدته وعبادته ومعاملته.

ومما جاءت به شريعة الإسلام، وبينته أتم بيان التأكيدُ على الطهارة والنظافة والنزاهة والبعد عن الأوساخ والنجاسات، فشرع الوضوء وجعل شرطا لصحة الصلاة، وشرع الغسل في مواضع كثيرة بين الوجوب والاستحباب، وشرع إزالة النجاسة والتوقي منها وتطهير البدن والثياب والمكان منها، وشرع السواك مطهرةً للفم ومرضاة للرب، وغير ذلك.

وقد أخبر الله تعالى عن نفسه فقال: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } [البقرة: 222]، فمن أراد الظفر بمحبة الرب وبحث عن أسبابها فكن من المتطهرين لتنال محبة رب العالمين.

وفي الحديث عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: (الطُهور شطر الإيمان) [رواه مسلم: (223). قال النووي في شرح مسلم (3/100): “قِيلَ الْمُرَاد بِالْإِيمَانِ هُنَا الصَّلاة كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانكُم}[البقرة: 143], وَالطَّهَارَة شَرْط فِي صِحَّة الصَّلَاة فَصَارَتْ كَالشَّطْرِ , وَلَيْسَ يَلْزَم فِي الشَّطْر أَنْ يَكُون نِصْفًا حَقِيقِيًّا , وَهَذَا الْقَوْل أَقْرَب الْأَقْوَال” وذكر أقوالا أخرى.] .

 

أيها الإخوة .. إن من أجلى مظاهر الطهارة التي جاء بها الشرع الحنيف: عبادةَ الوضوء.

الوضوء مشتق من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة والنضارة. ومعناه عند الفقهاء: هو استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة بنية على صفة مخصوصة.

الوضوء غسل الوجه مع المضمضة والاستنشاق، ثم غسل اليدين مع المرفقين، ثم مسح الرأس مع الأذنين، ثم غسل الرجلين مع الكعبين كما جاء بيانه في كتاب الله، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].

 

الوضوء عبادة وقربة يحبها الله ويحب أصحابها، وقد كان الوضوء معروفا في الأمم السابقة ففي قصة إبراهيم الخليل صلى لله عليه وسلم حين هاجر بامرأته سارة إلى أرض مصر؛ تسلط الملك عليها، – وفي الكرب يتوجه المؤمن إلى ربه بالوضوء والصلاة والدعاء – قال: فقامت توضأ وتصلي وقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر، فغطَّ – أي انسدت مجاري نفسه -حتى ركض برجله .. ) [رواه البخاري: (2217). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه .] .

وقص علينا النبي صلى لله عليه وسلم قصة جريج العابد وكان في بني إسرائيل، حين اتهمته امرأة بغي أنه زنى بها وولدت منه غلاما، فضربه الناس وهدموا صومعته وجروه، فقال: أين الصبي؟ فأحضروه أمام الناس، – موقف عصيب ورهيب يلجأ أهل الإيمان إلى ربهم بالوضوء والصلاة والدعاء – قال النبي صلى لله عليه وسلم: فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام وقال: من أبوك يا غلام؟ – وكان في المهد – فأنطق الله الغلام، وقال: أبي فلان الراعي. وكان راعي غنم هو الذي زنى بالمرأة [رواه البخاري: (2482), ومسلم: (2550), عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه .] .

فكان الوضوء معروفا فيما سبق، لكن اختصت هذه الأمة بالغرة والتحجيل، كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى لله عليه وسلم يقول ” إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء” [رواه البخاري: (136), ومسلم: (246).] ، والغرة نور في الوجه، والتحجيل نور في اليدين والرجلين يكون علامة من أثر الوضوء لهذه الأمة.

 

الوضوء سبب للطهارة المعنوية كما أنه طهارة حسية، فهو يطهر العبد من أوساخ الذنوب وأوضار الآثام، عن عثمان رضي الله عنه مرفوعاً : ( من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من أظفاره ) [رواه مسلم: (245).] .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: “إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب” [رواه مسلم: (244). قال ابن القيم في (الكلام على مسألة السماع): “الوضوء له ظاهر وباطن، وظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة، وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة ..”. ينظر: مفتاح دار السعادة(ص92).] .

حلية العبد في الجنة حيث يبلغ الوضوء، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ) [رواه مسلم: (250).] , ومعنى الحديث أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة، فإنهم يحلَّون فيها كما قال الله عزّ وجلّ: { يُحلَّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً }[الحج: 23]، فالمؤمن يُحلى في الجنة – رجلاً كان أو امرأة – بهذه الحلية ، وتكون إلى حيث يبلغ الوضوء.

 

إسباغ الوضوء ثم التشهد بعده سبب لدخول الجنة من أبوابها الثمانية:

عن عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: “ما منكم من أحد يتوضأ، فيسبغ الوضوء، ثم يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء “ [رواه مسلم: (234).] .

 

المحافظة على الوضوء علامة الإيمان:

عن ثوبان رضي الله عنه قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) [رواه ابن ماجه: (277), وأحمد: (22378), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (952). وقد جاء الحديث عن أبي أمامة وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما.] .

 

وما أجمل أن يكون المسلم طاهرا في أوقاته محافظا على الوضوء في ساعات ليله ونهاره، وهذا من المستحبات، لحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى لله عليه وسلم قال لبلال: بِمَ سبقتني إلى الجنة؟ قال: يا رسول الله، ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا رأيت أن لله عليّ ركعتين أصليهما، فقال صلى لله عليه وسلم: ” بها “ [رواه ابن حبان: (7087), وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: (7045).] .

 

عباد الله .. الوضوء يجب في مواضع ويستحب في مواضع أخرى. فيجب في ثلاثة مواضع:

1. عند الصلاة.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) [رواه البخاري: (6954), ومسلم: (225).] ، فالطهارة مفتاح الصلاة كما قال صلى لله عليه وسلم (مفتاح الصلاة الطهور) [رواه أبو داود: (61)، والترمذي: (3), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (5885).] ، وهي شرط من شروطها لا تصح إلا به.

2. عند مس المصحف.

فلا يجوز مس المصحف إلا لمن كان متوضئا، لما جاء عن النبي صلى لله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر) [رواه الطبراني في الصغير: (1162), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (7780). [له شواهد ذكرها العودة في شرح البلوغ: 2/ 877].] .

3. عند الطواف. فلا يطوف المسلم بالكعبة إلا إذا كان متوضئا، وهو الأحوط في العمل.

 

وأما الاستحباب فيستحب في مواضع منها على سبيل المثال:

1. عند قراءة القرآن حفظا.   2. عند ذكر الله تعالى.    3. عند النوم     4. عند الغضب

5. عند الصلاة وهو على طهارة فيسن أن يتوضأ تجديدا إذا كان قد استعمل وضوءه الأول.

 6. بعد الحدث، فإذا أحدث المسلم فيسن أن يتوضأ ليكون على طهارة كما سبق في حديث بلال رضي الله عنه.

 7. عند القيء ، كما حصل للنبي صلى لله عليه وسلم فإنه قاء فتوضأ. رواه الترمذي وصححه الألباني

8. قبل الغسل، فإذا أراد المسلم الغسل الكامل فيسن له الوضوء أولا كما ثبت ذلك عن النبي صلى لله عليه وسلم. 9. يستحب للجنب إذا أراد الأكل أو الشرب أو النوم أو معاودة الجماع أن يتوضأ، كما دلت على ذلك السنة.

 

عباد الله .. يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم صفة الوضوء المشروع، وهذا من العلم الواجب تعلمه، وأنبه في هذا المقام على بعض الأخطاء والمخالفات التي يقع فيها البعض:

1. يعمد البعض إذا أراد الوضوء فيجهر بالنية، وهذا خطأ، فإن النية شرط لصحة الوضوء لكن محلها القلب {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحجرات: 16]، فإذا أردت الوضوء فانو بقلبك ثم توضأ.

2. التقصير في إيصال الماء إلى أعضاء الوضوء، وهذا بسبب العجلة وعدم الاهتمام، والواجب أن يتفقد المسلم المواضع التي ينبو عنها الماء غالبا كظاهر المرفقين، وبين الأصابع لا سيما أصابع الرجلين، وما بين شعور الوجه.

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رجعنا مع رسول الله صلى لله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضئوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله صلى لله عليه وسلم: ” ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء” [رواه البخاري: (165), ومسلم, واللفظ له: (241).] .

وعن بعض أصحاب النبي صلى لله عليه وسلم أن النبي صلى لله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى لله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة [رواه أبو داود: (175), وصححه الألباني في الإرواء: (86).] .

3. اعتقاد وجوب الاستنجاء عند كل وضوء، وهذا خطأ شائع لا سيما عند كبار السن، وهو من تكليف الإنسان على نفسه ما لا يجب. والاستنجاء أو الاستجمار إنما يجب من خروج البول أو الغائط وما كان في معناهما، وليس متعلقا بالوضوء.

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

4. من الأخطاء المنتشرة: الإسراف في ماء الوضوء

عن أنس رضي الله عنه كان النبي صلى لله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد [رواه البخاري: (201), ومسلم: (325).] .

قال ابن القيم: (وكان النبي صلى لله عليه وسلم من أيسر الناس صباً لماء الوضوء، وكان يحذر أمته من الإسراف فيه ، وأخبر أنه يكون في أمته من يتعدى في الطهور).

فالإسراف منهيٌ عنه ولو كنت على شاطئ البحر [رواه ابن ماجه: (425), وأحمد: (7065), وصححه الألباني في الصحيحة: (3292).] .

قال المروزي : وضأت أبا عبد الله – يعني الإمام أحمد – فسترته من الناس لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء لقلة صب الماء .

وقال الإمام أحمد : (من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء).

5. التقصير في غسل اليدين، والتقصير يكون في الطرفين .

من جهة الكف، فنرى الكثير حينما يغسل وجهه في الوضوء يغسل يديه من مفصل الكف، وهذا خطأ ونقص، لأن حد اليد من أطراف الأصابع، فيجب غسلها من أطراف الأصابع. ويكون التقصير من جهة المرفقين، لا سيما في أيام الشتاء حينما تكثر الثياب فيغسلهما ولكن لا يبلغ الغسل جميع المرفقين .

6. عدم إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة، ومن شروط صحة الوضوء إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة. فيتوضأ البعض وثمة ما يمنع من وصول الماء على بعض أعضاء الوضوء، ويكثر هذا عند النساء حينما تستعمل طلاء الأظافر (المناكير) ثم تتوضأ مع وجود هذا المانع من وصول الماء.

7. الزيادة على الثلاث، جاء أعرابي إلى النبي صلى لله عليه وسلم يسأله عن الوضوء فأراه الوضوء ثلاثا ثلاثا ثم قال: (هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) [([18]) رواه النسائي, واللفظ له: (140), وأبو داود: (135), وابن ماجة: (422), وحسنه الألباني في الصحيحة: (2980).] .

 

فينبغي للمسلم أن يكون معتدلا وسطا بين التقصير والتجاوز بالزيادة على المشروع.

والحذر من الوسوسة في الوضوء فإن أكثر ما تقع الوسوسة في أمور الطهارة، وهي بلاء يعاني منه بعض الناس. ومما ينصح به في علاجها: الانتضاح بالماء، والمراد: رش الفرج بالماء بعد الاستنجاء ليدفع بذلك الوسوسة ، وهو نافع لمن ابتلي بالوسوسة. لحديث الحكم بن سفيان رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى لله عليه وسلم توضأ ثم أخذ كفاً من ماء فنضح به فرجه [رواه ابن ماجة: (461), وأبو داود: (166), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (4697). ] .

وجاء رجل إلى الإمام أحمد فقال: (إني أتوضأ وأستبرئ وأجد في نفسي أني قد أحدثت بعده)، فقال الإمام أحمد: (إذا توضأت فاستبرئ ثم خذ كفاً من ماء فرشه على فرجك ولا تلتفت إليه، فإنه يذهب إن شاء الله).

8. الدعاء على الأعضاء، فتجد البعض يلتزم دعاء معينا مع أعضاء الوضوء، فإذا غسل وجهه قال: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وإذا غسل يديه قال: اللهم أعطني كتابي بيميني، وإذا غسل رجله قال: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام، وهذا غير وارد، والمشروع من الأذكار أن يقول بعد الفراغ من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كما سبق.

ويقول أيضا: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

اللهم ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى