كتب ومقالات

الوصية: أحكام وتنبيهات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد

فإن من نعمِ الله علينا ما أفاء به من هذا المالِ الذي بأيدينا، وهو خيرٌ لمن أحسنَ في اكتسابِه وإنفاقِه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نعم المالُ الصالحُ للرجلِ الصالحِ) رواه أحمد (17763), وابن حبان (3210), وصححه الألباني في المشكاة (3756) عَن عَمْرِو بن العاصِ رضي الله عنه .

والمالُ فتنةُ هذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمةٍ فتنةً، وإن فتنة أمتي المال) رواه الترمذي (2336), وأحمد (17471), وصححه الألباني في صحيح الجامع (2148) عَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ رضي الله عنه ، فالناسُ يُفتنون بهذا المال ويُختبرون، فمنهم من ينجحُ فيقودُهُ إلى الجنة، ومنهم من يكون مالُه سببا في شقائه في الدنيا والآخرة.

 

أيها المسلم .. إن مالك الحقيقيَّ ليس ما تخلِّفُهُ من الأرصدة والعقارات، فهذا سوف يتقاسمه الورثةُ ويتمتعون به، وعليك حسابُه وتبعته، وستقدم فردا، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}، هذه حقيقة يجب أن يهتز لها القلب {تَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}، ولا يبقى معك إلا ما قدمته لله.

وهذه الحقيقةُ حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تقريرها لأمته بأكثرَ من أسلوب، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ذبح شاةً مع أهل بيته، فتصدقوا بها قربةً لله إلا الكتفَ أبقوه عندهم في البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ قالت عائشة: ما بقي منها إلا كتفُها، فقال صلى الله عليه وسلم: (بقي كلُّها غير كتفِها) رواه الترمذي: (2470), وصححه الألباني في الصحيحة: (2544). والمعنى أن ما تصدقنا به هو الباقي لنا ذخرا نافعا.

 

أخي الكريم .. إن المرءَ العاقل إذا أنعم اللهُ عليه بالمال الذي يزيدُ عن نفقتهِ ونفقةِ عيالِهِ، يحرصُ على استثمارِ هذا المال لصالحه هو، ويبحث عن السبلِ التي تعودُ عليه بعوائدَ وفوائد وأرباحٍ في مستقبله، وأعني بالمستقبل: المستقبلَ الطويلَ في الحياة الأبدية السرمدية حياة الآخرة، فليس من العقل أن يكدحَ الإنسانُ عمره في جمعِ المال واستثمارِهِ، ثم يموتُ فجأة، ويأكله الورثةُ لقمةً سائغة، ويشقى هو بحسابه وتبعته.

ومن أجل ذلك فقد جاءت الشريعةُ بثلاثة أبوابٍ مشرعة، هي في الحقيقة فرصٌ استثمارية مجزيةٌ ومضمونة، وتحقق هذا المقصود، وهي: الصدقة والوقف والوصية.

 

ولعلي أتحدث هنا عن أحد هذه الأبواب المباركة، وهو الوصية، لكثرة الأسئلة عنها، وكثرةِ الجهلِ والخللِ في تطبيقها. وسوف يكون الحديث في وقفات متسلسلة.

 

 الوقفة الأولى: المراد بالوصية

الوصية: هي الأمر بالتصرف بعد الموت.

فمحل تنفيذها بعد الموت. وتنقسم إلى قسمين:

1. وصية مالية: وهي التبرع بالمال بعد الموت. وهي المرادة عند الفقهاء، ويعقدون لها بابا في أبواب المعاملات. بأن يوصي الإنسان بشيء من ماله ينفذ بعد موته من تبرع في وجوه الخير.

ومن هنا يتبين الفرق بين الوصية والصدقة، فالصدقة تبرع في الحياة، أما الوصية فهي تبرع لا ينفذ إلا بعد الموت.

2. وصية غير مالية: بأن يعهد الإنسان ببعض التصرفات التي تفعل بعد موته، كأن يوصي أن يتولى تغسيله وتكفينه فلان، والصلاةَ عليه فلان، أو يتولى تزويجَ بناته بعد موته فلان، ونحو ذلك.

جاء في (فتح الباري) 5/357: “وقد تكون الوصية بغير المال كأنه يعين من ينظر في مصالح ولده أو يعهد إليهم بما يفعلونه من بعده من مصالح دينهم ودنياهم، وهذا لا يدفع أحدٌ ندبيته”.

وتطلق الوصية على النصيحة والحث على شيء من أمور الخير والبر.

 

قال أسامة بن منقذ في (لباب الآداب) ص1: “الوصية وصيتان:

وصية الأحياء للأحياء، وهي: أدب وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتحذير من زلل، وتبصرة بصالح عمل.

ووصية الأموات للأحياء عند الموت، بحق يجب عليهم أداؤه، ودين يجب عليهم قضاؤه”.

ثم ساق نماذج كثيرة من النوع الأول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده.

 

 الوقفة الثانية: مشروعية الوصية

الوصية مشروعة في الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة)، قال عبد الله بن عمر – راوي الحديث -: ما مرت عليَّ ليلةٌ منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، إلا ووصيتي عندي. رواه البخاري: (2738), ومسلم: (1627).

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) رواه ابن ماجه: (2709), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (1733).

قال الإمام الشافعي: من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقَه وصيتُهُ.

وقال بكر المزني: إنِ استطاع أحدُكم أن لا يبيت إلا وعهدُه عند رأسه مكتوبٌ، فليفعل، فإنَّه لا يدري لعله أنْ يبيتَ في أهلِ الدُّنيا ، ويُصبح في أهلِ الآخرة.

 

الوقفة الثالثة: الحكمة منها

العمل بالوصية فيه حكمٌ كثيرة، منها:

1) زيادة الأجور والتقرب إلى الله بالعمل الصالح في وقت الشدة والكربة، والحاجة إلى الحسنة الواحدة.

2) براءة الذمة ببيان ما في ذمة الإنسان من ديون، وما له من حقوق.

3) حماية الأموال، وذلك من جهتين:

الأولى: أن عمل البر ينمي المال ويبارك فيه.

الثانية: في الوصية حمايةٌ للمال من المدَّعينَ بعد الموت، وذلك بأن ينص المرء في وصيته إن كان في ذمته دين، فيذكرَ مقدارَه وتاريخه ومُستَحِقَّه، وإن لم يكن في ذمته شيء فينص على ذلك أيضا أنه ليس في ذمتي شيء، وهذا مفيدٌ ونافعٌ ومريحٌ للورثة.

وكان رجل صاحبَ معاملات مع الناس، فأصيب بمرض مفاجئ لم يمهله كثيرا، وبعد موته جاء رجل إلى أولاده وقال: إن لي على والدكم مبلغ كذا من المال، وليس معه مستندٌ رسمي، فبحثوا فيما خلَّفهُ أبوهم، فلم يجدوا شيئا، ولم يكتب وصية، فوقعوا في حرج، هل يعطون الرجل بناء على ظاهر الحال وإبراء لذمة أبيهم، أم لا يعطونه لعدم التوثيق؟.

4) قطع التنازع بين الورثة، فحينما يترك الرجل وصية مكتوبة محررة، فستكون مستندا واضحا وحاسما يقطع التنازع والخلاف بين آراء الورثة، ولا سيما الأبناء.

5) الاستعداد للموت، فمن يكتب وصيته، فإنه يعد نفسه للرحيل، وهذا يدفعه للاستعداد والتزود ليوم المعاد.

6) الإحسان إلى الذرية بما يصلحهم وينفعهم في دينهم ودنياهم، وتأملوا قول الله عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 132] ، وقوله تعالى عن نبيه يعقوب عليه السلام: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].

 

فما أجمل أن يخلف الأب وصيةً لأبنائه يفتحونها بعد دفن أبيهم فيجدون فيها: كلماتِ التوجيه والإرشاد المغلفة بالحب والشفقة والحرص، يجدونه يوصيهم بالحرص على الصلوات الخمس، والمحافظة عليها مع الجماعة، ويجدون فيها حثهم على الاجتماع والتآلف، والحذرَ من الفرقة والتنازع والاختلاف، يجدون فيها الوصية بالأرحام، ويحذرهم من بعض الأخطاء التي هم واقعون فيها، ولم يكن يتشجع لمواجهتهم بها، أو كان ينصحهم ولا يستجيبون لنصحه.

إن مثل هذه الوصايا لها وقعٌ كبيرٌ في نفوس الأبناء وهي بإذن الله صمام الأمان، وسبب لثباتهم واجتماع كلمتهم، لأنها باقيةٌ بينهم بعد رحيل أبيهم.

ومن الإحسان إلى الذرية: أن يوصي بما فيه مصلحتهم إن كانوا قصرا، أو يُعيِّن من يقومُ على تزويج بناتِه ممن يثقُ بدينه ورشده.

وغير ذلك من الفوائد والحكم الكثيرة في هذه الشعيرة المشروعة.

 

أخي الحبيب .. إن كثيرا من الناس يتقاعس عن الوصية، لأنها ارتبطت في الأذهان بالموت، والموت مفزعٌ مخوف، فلا يريد أن يحدث نفسه بالموت، وإنما يفتح باب الأمل، ويؤجل الأمر، وتمر السنوات حتى يفجأه الموت، ولم يفعل شيئا.

وهذا تصورٌ خاطئ فإن الوصية لا تقرب بعيدا، فالأجلُ قد فرغ منه، ولكل منا ساعة لا يتقدم عليها ولا يتأخر.

 

 الوقفة الرابعة: حكم الوصية

الوصية تدور عليها الأحكام الخمسة: الوجوب والاستحباب والكراهة والتحريم والإباحة.

 

1) الوجوب

تكون الوصية واجبةً على المكلف يأثم بتركها إذا كان على الإنسان ديون أو حقوقٌ لا يعلم بها إلا هو وصاحب الحق، فهنا يجب عليه أن يوصي لتثبيت الحق لصاحبه، ولقطع الخصومة التي تنشأ غالباً في مثل هذه الأحوال بسبب عدم قدرة صاحب الحق على إثبات حقه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

فمن كان في ذمته حقٌ سواء كان حقا لله تعالى كالزكاة والكفارة، أو حقا للآدمي كالدين والوديعة ونحوهما، فعليه أن يبادر إلى أداء هذه الحقوق في حياته، فإن عجز فليوص وصية واضحة بهذه الحقوق إبراء لذمته.

 

2) الاستحباب

تستحب الوصية لمن كان عنده مال زائد عن حاجة ورثته، فيوصي بما تيسر من أعمال البر والقرب والخير، بما لا يتجاوز الثلث، لما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض بمكة فقلت: لي مالٌ أوصي بمالي كلِّه؟ قال: لا ، قلت: فالشطر – يعني النصف -؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم. رواه البخاري (1295), ومسلم (1628)

والأولى – كما ذكر أهل العلم – أن لا يستوعب الثلث بالوصية وإن كان غنيًا، لقوله صلى الله عليه وسلم (والثلث كثير)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث، والثلث كثير) رواه البخاري: (2743), ومسلم: (1629)

 

فلو أوصى بالخمس فهو حسن، وقد ورد عن بعض الصحابة والتابعين، ومنهم أبو بكر رضي الله عنه أوصى بالخمس، وقال: رضيت بما رضي الله به لنفسه، يعني قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه.. }[الأنفال: 41]. رواه عبد الرزاق في مصنفه (16363), وضعفه الألباني في الإرواء: (1649) وقال: أخرجه البيهقي 6/270 من طريق قتادة قال: ذكر لنا أن أبا بكر رضى الله عنه أوصى بخمس ماله , وقال: لا أرضى من مالي بما رضي الله به من غنائم. وقال قتادة: وكان يقال: الخمس معروف, والربع جهد, والثلث يجيزه القضاة “. قلت: وهذا إسناد منقطع , لأن قتادة لم يدرك أبا بكر رضى الله عنه.

قال الإمام النووي في روضة الطالبين 6/ 97: “ويستحب أن يوصي من له مال، وتعجيل الصدقة في الصحة، ثم في الحياة أفضل”.

 

3) الكراهة

تكون الوصية بالمال مكروهةإذاكان مال الموصي قليلاً وورثته محتاجون، فهذا لا ينبغي أن يوصي بشيء من ماله، لأن الأقربين أولى بالمعروف، ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاصرضي الله عنه في الحديث المتقدم: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس). وقال الشعبي رحمه الله: ما من مال أعظم أجراً من مال يتركه الرجل لولده، ويغنيهم به عن الناس.

وقد مات كثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوصوا.

 

4) التحريم

تكون الوصية محرمة في بعض الصور، منها:

‌أ. الوصية بأكثر من الثلث، فلا يجوز للمسلم أن يوصي بأكثر من ثلث ماله، لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه: (الثلث، والثلث كثير) مع إخباره بكثرة ماله وقلة عياله.

ب‌. تحرم الوصية أيضا إذا كانت لوارث، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود: (2870), والترمذي: (2120), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (1789). عن أبي أمامة رضي الله عنه. وهذه الجملة جاءت عن أنس بن مالك وعلى بن أبى طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وجابر بن عبد الله, وعبد الله بن عمر, والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وعمرو بن خارجة رضي الله عنهم. انظر: الإرواء, عند حديث: (1655).

وأجمع العلماء على ذلك.

ج. الوصية في أمر محرم، كطباعة كتب السحر والبدع.

 

5) الإباحة

إذا كان المال قليلا، والوارث غير محتاج، فالوصية مباحة.

فهذا حكم الوصية في الإسلام، ولينظر كلٌ منا في حاله، وينزل الحكم عليه، وليحذر من الجور والإضرار في الوصية.

 

الوقفة الخامسة: مصرف الوصية

ينبغي أن يعلم أن تعجيل الصدقة والبر في حال الصحة والحياة أفضل، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: (أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفقرَ وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) رواه البخاري: (1419), ومسلم: (1032)

ومع ذلك فالتبرع بعد الموت بابُ خيرٍ وبر، وزيادةٌ وتداركٌ للتقصير، وأحسنُ ما يوصي به المرءُ بعد موته بلا خلاف بين أهل العلم: أن يوصي لأقاربه الذين لا يرثون إذا كانوا ذوي حاجة، وذلك لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتّقِينَ } [البقرة: 180]، فخرج منهم الوارثون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) رواه أبو داود: (2870), والترمذي: (2120), وصححه الألباني في الإرواء: (1655)، وبقي سائر الأقارب.

وقال تعالى {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكينَ .. الآية} [البقرة: 177]، فبدأ بهم، ولأن الصدقة عليهم في الحياة أفضل فكذلك بعد الموت.

ثم بعد ذلك ينظرُ في وجوه البر والخير، ويتحرى الأنفع، وما تكون الحاجةُ إليه أشد، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، ويحسن أن يستشير المرءُ أهلَ الدين والعلم والرأي في أحسن المصارف التي يجعل وصيتَه فيها.

 

ومن ذلك على سبيل المثال: عمارة المساجد وخدمتُها، وإعانة طلبة العلم وكفالتُهم، ودعم المجاهدين في سبيل الله، وطباعة الكتب النافعة، والتبرع لمكاتب الدعوة وتوعية الجاليات في الداخل، والمراكزِ الإسلامية والدعوية الموثوقة في الخارج.

 

ومن مصارف الوصية عظيمة النفع: دعمُ جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، ودعم مواقع الدعوة ونشر العقيدة الصحيحة على شبكة الأنترنت، والقنوات الفضائية الهادفة التي تسهم في نشر الفضيلة والعلم الصحيح، وتحارب البدعة والرذيلة.

 

ومن المصارفِ النافعة جدا: الإسهامُ في تيسير العلاج الطبي على الفقراء والمحتاجين، فهذا بابٌ عظيم يغفل عنه الأغنياء، وكم يعاني بعضُ الناس من ثقل التداوي وكلفته، إما لفقره أو لفداحة مرضه وكثرة تبعاته، فلو قام غنيٌ أو اجتمع بعض الأغنياء في إنشاء مستشفى خيري يقدم الخدمات الصحية للفقراء العاجزين، لكان عملا جليلا، ومشروعا رائدا، وهو مصرف مقترح للصدقة والوصية والوقف.

 

ومن المصارف المقترحة أيضا: قضاءُ ديون المعسرين، وتعبيدُ الطرق للمسلمين، ومعونة الشباب العاجزين عن الزواج، وغيرُ ذلك من أبواب البر والخير التي لا تحصى.

 

ولا بأس أن يجعل الإنسان مصرف وصيته إلى من يثق في دينه ورأيه، فيقول: أوصيت بمبلغ كذا من تركتي، أو بمقدار الخمس منها في أعمال الخير بما يراه فلان بن فلان.

ومما ينبغي التنبه له: مراعاة النوازل والطوارئ التي تنزل بالأمة، فهذه عوارض تحتم الالتفات لها وتقديمها على غيرها.

 

الوقفة السادسة: تنفيذ الوصية

يجب على من تولى وصية سواء كان وصيا من قبل الوصي، أو وارثا يؤول إليه تنفيذ الوصية أن يتقي الله، ويبادر بتنفيذ الوصية كما أراد الموصي ما لم يكن فيها جورٌ أو إثم، وليحذر من نزغات الشيطان، وأطماع النفس، لا سيما إذا كانت مبالغُ الوصية كبيرةً، فإن بعض الناس يستغل ضعفَ الورثة، وقلةَ خبرتهم، فيتحايلُ على وصية الميت، ويحابي نفسه أو من يحب، ويقع هذا من الابن الأكبر الذي يقع المالُ تحت تصرفه، فيؤجل أو يتهاون في تنفيذ الوصية كما ينبغي، كما يقع أيضا من بعض الأوصياء الذين عينهم الموصي ووثق فيهم، لكن هذا الوصي تحايل وتمايل أمام بريقِ المال وفتنته.

وقد قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181]، أي فمَن غَيَّر وصية الميت بعدما سمعها منه قبل موته، فإنما الذنب على مَن غيَّر وبدَّل لا على الموصي. إن الله سميع عليم، وسيجازيكم على ذلك.

وليُعلم أن ما يخلفه الميت من التركة يبدأ فيه على الترتيب الآتي:

1) قضاء الديون، سواء كانت ديونا لله كالزكاة والكفارة، أو ديونا للناس.

2) تنفيذ الوصية من ثلث ماله، ولا يزاد في الوصية على الثلث إلا بإجازة الورثة.

3) قسمة الميراث الشرعية.

فهذه الثلاثة على الترتيب: الدين ثم الوصية ثم الإرث.

ولما ذكر الله تعالى قسمة الميراث؛ قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11].

فالحاصل أن من آلت إليه وصيةٌ فليبادر بتنفيذها، فهذا من أداء الأمانة، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ} [النساء: 58].

وإذا حدد الموصي جهةً معينة لوصيته؛ صرفت الوصيةُ لهذه الجهة .

وإذا لم يحدد جهة معينة، كأن قال: وصية لله، أو في أعمال الخير، أو في أوجه البر، فتصرف في أوجه البر والخير عموما، كإعطاء الفقراء والمساكين لا سيما القرابة، وبناء المساجد ودور العلم وتحفيظ القرآن ونحو ذلك مما سبق ذكره من المصارف.

 

مسألة: تغيير مصرف الوصية لما هو أفضل

هذه مسألة يكثر السؤال عنها في تنفيذ الوصية: هل يجوز تغيير مصرف الوصية لما هو أفضل وأنفع؟

والجواب: أنه إذا كانت الوصية لمعين، فإنه لا يجوز تغييرها، كما لو أوصى شخصٌ لعمته أو خالته المحتاجة، والعمة والخالة لا ترث، فهنا لا يجوز أن تُغير، لتَعَلُّقِ حقِّ المعين بها.

أما إذا كانت لجهة غير معينة، كالوصية للمساجد أو الفقراء، فلا حرج أن يصرفها لما هو أفضل، لأن الغرض من الوصية التقرب إلى الله عز وجل، ونفع الموصى له، فكل ما كان أقرب إلى الله، وأنفع للموصى له، كان أولى.

 

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّي فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: (صَلِّ هَا هُنَا)، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: (صَلِّ هَا هُنَا)، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَال: (شَأْنَكَ إِذًا). رواه أبو داود (3307) وصححه الألباني في الإرواء (972)

ومما يرشد إليه أن يحتاط الوصيُّ لنفسه، ويوثق أموره بإثبات الوصية، وإثبات مصرفها، حتى لا يقع مع الورثة في شقاق ونزاع. وإذا أشكل عليه شيء أو تردد فيه فليستشر أصحاب الخبرة من القضاة والمحامين ونحوهم.

 

الوقفة السابعة: كتابة الوصية

يستحب للمسلم أن يكتب وصيته، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة) رواه البخاري: (2738), ومسلم: (1627)، ويستحب أن يشهد عليها شاهدي عدل قطعًا للنزاع، ولأنه أحوط وأحفظ.

وتثبت الوصية بالكتابة الثابتة، وبالنطق الثابت، بكل ما يدل على معنى الوصية من التبرع بالمال بعد الموت، كأن يقول: أوصيت، أو أعطوا فلانا كذا بعد موتي، أو إذا مت فتصدقوا عني بكذا، ونحو ذلك من العبارات.

وأحسن ما توثق به الوصية: الكتابةُ مع الإشهاد عليها.

 

وليس للوصية صيغة معينة، لكن من الصيغ المقترحة لكتابة الوصية، أن يكتب:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أوْصى به فلان بن فلان، أنَّه يشْهَدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويشهد أن الجنةَ حقٌ، والنارَ حقٌ، وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا رَيْب فيها، وأن الله يَبْعَثُ مَنْ في القُبُور، – ثم يقول: –

أَوْصي من تركت من أهْلي وأولادي أن يَتَّقُوا الله، ويجتهدوا في تحقيق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ويحرصوا على طاعة الله والتقرب إليه بما شرع، ويحذروا من معصيته، ومن أهم ذلك الصلوات الخمس أن يقيموها كما شرعها الله في أوقاتها، والرجالُ في المساجد مع جماعة المسلمين، وأوصيهم أن يُصْلِحُوا ذات بَيْنهم، ويحذروا من نزغات الشيطان، بالتحريش والنزاع والفرقة بين الأقارب. وأوْصيهم بما أوصى به إبراهيمُ بنيه ويُعْقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].

ثم إن رأى أن يرشدهم في أمر من الأمور، كواجب كثر التفريط فيه، أو مخالفة أو بدعة كثر الوقوع فيها فليذكرها.

ثم إن شاء أن يعين من يتولى تغسيله والصلاة عليه فليفعل. فقد جاء هذا عن كثير من السلف فقد نقل عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أوصى أن يصلي عليه عمر. رواه عبد الرزاق في المصنف: (3/ 471)، وعمرُ أوصى أن يصلي عليه صهيبٌ. رواه عبد الرزاق في مصنفه (3/ 471) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 29)، وعائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة رضي الله عنهم. انظر: المغني لابن قدامة: (3/ 405 – 406)، وغيرهم. انظر للاستزادة من مثل ذلك: مصنف ابن أبي شيبة: (3/ 258)، السنن الكبرى للبيهقي (4/ 29), المحلى لابن حزم: (5/ 145)، أحكام الجنائز للألباني: (ص 261)

ثم يذكر الديون التي له، والتي عليه محررة واضحة، بذكر مقاديرها وأصحابها وعناوينهم إن كانوا غير معروفين للورثة، وما سدد منها أو حُصِّل، وما بقي، ويوثق ذلك بالتواريخ ليكون أضبط لها.

ثم يوصي بما شاء من ماله في أعمال الخير والبر بحسب حاله وحال ورثته كما سبق بيانه في حكم الوصية، ويحسن أن يضع عبارة جامعة تريح من يقوم على تنفيذ الوصية.

والأحسن أن تكون الوصية بشيء محدد لا بالنسبة من ماله، كأن يقول: أوصي بالعقار الفلاني، أو بمبلغ كذا بما لا يزيد على ثلث ماله، فهذا أيسر وأسرع في تنفيذ الوصية.

أما لو قال: أوصي بربع مالي، وكان ماله كثيرا متنوعا متفرقا؛ فيحتاج الأمر إلى جهد ووقت في إحصاء ماله وضبطه حتى يعرف الربع منه.

وإن شاء أن يعين وصيا على ذلك لقصور ورثته، أو يعين وصيا على ورثته القصر، أو على تزويج بناته؛ فليذكره.

ثم يختم الوصية بالتوقيع أو الختم إن كان له ختم خاص، ويدون التاريخ، ويذكر الشاهدان مع توقيعهما. وبذا تكون الوصية جامعة محررة مريحة لمن بعده.

 

ومما يشار إليه تطبيق الوصية، وهو تطبيق متقن صدر عن مركز واقف (خبراء الوصايا والأوقاف)، وينصح بتحميله والاستفادة من خدماته:

للتحميل التطبيق لأجهزة الآيفون: فضلا اضغط هنا

ولتحميل التطبيق لأجهزة الأندرويد: فضلا اضغط هنا

 

الوقفة الثامنة: أخطاء منتشرة في الوصية

من نظر في الواقع وجد بعض الأخطاءِ والملحوظاتِ التي تقع من بعض المسلمين في باب الوصية. سبقت الإشارة إلى شيء منها، ومن ذلك أيضا:

1) عدم كتابة الوصية مع وجوبها عليه

وسبق بيان متى تجب في الوقفة الرابعة.

2) الإضرار والميل في الوصية

وهذه بليةٌ يقع فيها البعضُ في خاتمة عمره، وقال الله تعالى بعد بيان بعض أحكام المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } [النساء: 13]، والمعنى أن قسمة المال على الورثة بعد قضاء دين الميت، وبعد تنفيذ وصيته، لكن هذه الوصية المبنية على العدل، لا على الإضرار والجور والحيف.

والإضرار في الوصية له صورٌ منها:

1. أن يحرم بعضَ الورثة، أو ينقصَه من نصيبه، أو يزيده على ما قدَّرَ الله له من الفريضة.

2. أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ ثُلُثَ مَالِهِ.

3. أن يقرَّ على نفسه بدين لا حقيقة له من أجل أن يمنع الوارثَ من تمام حقِّه.

وهكذا في أي صورة يميل فيها في وصيته على حساب بعض الورثة، أو يكون فيها ضررٌ عليهم أو على بعضهم. فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وحكمه.

وفي الحديث عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر، من ضار ضاره الله، ومن شاق شاقه الله) رواه الدارقطني: (522), والحاكم: (2345), وحسنه الألباني في أحكام الجنائز: (ص7). انظر الصحيحة: (250)

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (إن الرجل ليعمل، والمرأةَ بطاعة الله تعالى ستين سنة، ثم يحضرهما الموتُ فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) رواه أبو داود: (2867), والترمذي: (2117), وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: (1457) بشهر بن حوشب.

وجاء عن ابن عباس قال: (الضرار في الوصية من الكبائر) رواه الطبري: (8/ 66, 65)

قال الطاهر ابن عاشور في تفسير الآية: “وَلَمَّا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُوصِي وَقَصْدُهُ الْإِضْرَارَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَخَشْيَةِ رَبِّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الْإِضْرَارَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 11][فائدة: جاء في (فتح البيان في مقاصد القرآن) (3/ 46): “وهذا القيد – غير مضار – راجع إلى الوصية والدين المذكورين فهو قيد لهما، فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته فهو باطل مردود، لا ينفذ منه شيء لا الثلث ولا دونه”.] نَهْيٌ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ”. التحرير والتنوير (4/266).

 

ومن مظاهر الوقوع في هذا الخطأ: الوصيةُ للوارث، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) سبق تخريجه. وأجمع العلماء على ذلك.

وبعض الناس يميل إلى بعض زوجاته فيكتب لها شيئا خاصا من ماله، والبعض تدركه شفقة الأبوة فيقول أو يكتب أن أعطوا ولدي الصغير كذا وكذا من المال.

ومن أمثلة ذلك أيضا: أن يكون عند الأب ثلاثة أبناء مثلا، فيقوم بتزويج اثنين منهم على نفقته، وهذا من النفقة الواجبة على الأب إذا احتاج الابن للزواج وهو غير قادر على نفقاته أن يقوم الأب بتزويج ولده، فهذا الأب الذي زوج اثنين من أبنائه، والثالث لا يزال صغيرا، فيوصي الأب أن خذوا من مالي خمسين ألفا مثلا لمساعدته في زواجه كما ساعدت أخويه، وهذا خطأ يغفل عنه الكثير، وفعله هذا حرامٌ، والوصية باطلة لا تنفذ إلا بإجازة الورثة، لأنها وصية لوارث، ونفقة الزواج تجب عند الحاجة، كالطعام إذا احتاجه، واللباس، والدواء، ونحو ذلك.

 

3) السكوت عن الميل في الوصية

وهذا خطأ يقع فيه بعض الناس حين يكون شاهدا على الوصية، أو يكون وارثا أو وصيا مسؤولا عن تنفيذ الوصية أن يجامل ويسكت، ويُمرَّ الوصية مع ما فيها من الإضرار والميل.

قال الله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182]، والمعنى: مَن علم مِن موصٍ ميلا عن الحق في وصيته على سبيل الخطأ – وهذا هو الجنف – أو علمه على وجه العمد – وهذا هو الإثم -، فنصح الموصيَ وقت الوصية بما هو الأعدل، فإن لم يحصل له ذلك فأصلح بين الأطراف بتغيير الوصية; لتوافق الشريعة، فلا ذنب عليه في هذا الإصلاح. ومفهوم الآية أن من لم يصلح فعليه إثم.

 

أيها المسلم .. إن قُدِّر لك أن تكون شاهدا أو كاتبا أو وصيا أو وارثا، واطلعت على ميل أو إضرار في الوصية فلا تداهن أو تجامل، بل أصلح تجنبا للإثم والمعونة على المعصية.

 

4) إيقاع الحرج

وهذا خطأ يقع فيه بعض الموصين: أن يوقع من وراءه في حرج بسبب عدم تحرير وصيته، ولهذا أمثلة منها:

أ‌. أن يخلف وراءه أكثرَ من وصية، وليس فيها شيءٌ مؤرخ، ويقع هذا أحيانا بأن يكتب الإنسانُ وصيتَه في الخمسين من عمره مثلا ، ومع مرور السنين ينسى ما كتب، فإذا بلغ السبعين كتب وصية أخرى، فإذا مات الرجل وجد الورثةُ وصيتين مختلفتين، لا يدرون المتقدم من المتأخر. والتوجيه في هذا أن يكتب المرء في وصيته: (وهذه الوصية ناسخةٌ لما سبقها) ويدون التاريخ.

ب‌. ومن الأمثلة: أن يعدِّل الموصي على وصيته شفويا بعد كتابتها، فيكتب في وصيته مثلا أن بيته في الحي الفلاني وقف لله تعالى يصرف في كذا، ويشهد على هذه الوصية، ويبقيها عنده، ثم بعد سنين، تتحسن أحواله، فيخاطب ابنه أو أخاه أن البيت الذي أوقفته في وصيتي ينقل إلى البيت الآخر في حي كذا لأنه أحسنُ من الأول، لكنه لا يدون هذا التعديل في الوصية المكتوبة، ولا يشهد عليه، فبعد موته، قد يحصل نزاع بين الورثة هل يقبل خبر الواحد أو يعمل بالمكتوب؟ لا سيما والفرق مؤثر بالنسبة لهم، وقد وقع نظير هذا المثال، ورفعت القضية إلى المحكمة للفصل بينهم.

ت‌. ومن أمثلته: أن يشدد في مصرف الوصية ويدقق ويفصل بما يسبب حرجا على من يتولى تنفيذها، وينبغي للمرء ألا يشق على من بعده، فيذكر المصرف واضحا واسعا قدر الإمكان، أو يفوضه إلى من يثق في دينه ورأيه.

 

5) التأخر في تنفيذ الوصية:

وهذا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الأوصياء أو الورثة، أنهم يؤجلون قضاء الدين عن الميت، أو تنفيذَ وصيته، ينتظرون ارتفاع العقار، أو صعود الأسهم، والذي ينبغي التعجيل بتنفيذ الوصية والمبادرة بذلك؛ لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }[النساء: 58] ، بل قال العلماء: ينبغي التعجيل بتنفيذ الوصية قبل دفن الموصي، حتى يصل إليه الثواب قبل دفنه.

 

6) الوصية في المفضول وترك الأفضل

وهذا من الملحوظات على بعض الموصين أنه يوصي بشيء غيرُه أفضلُ منه بكثير، وفي مثل هذا نوصي بمشاورة أهل العلم والرأي، وأخذ رأيهم في أفضل المصارف التي يصرفُ المسلمُ مالَه فيها بعد موته.

 

7) التصرف في التركة بالتبرع مع وجود القصر

وهذا يقع فيه البعض حين لا تكون وصية، فبعض الناس إذا مات أبوهم ولم يترك وصية؛ يريدون أن يعملوا له بعض أعمال البر كبناء مسجد أو كفالة أيتام أو غير ذلك، وهذا عمل طيب بشرط أن يكونوا بالغين راشدين، وأما الصغير منهم فلا يجوز التبرع بشيء من ماله ولو أذن؛ لأن إذنه غير معتبر. قال تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء: 34].

فإذا كان في الورثة صغار، جاز للبالغين الراشدين فقط أن يتبرعوا بشيء من نصيبهم لأعمال البر، ومن تبرع بشيء من مال الصغير ، فإنه يُلزم بدفعه للصغير من ماله الخاص.

وهكذا يقع من الورثة أن يتنازلوا عن بعض التركة لأحد الإخوة أو الأخوات، فإذا كان الورثة كلهم بالغين مرشدين فلا بأس أن يتنازلوا، وأما إذا كان فيهم قُصَّر فلا يجوز أن يتنازل أحدٌ فيما يختص بهؤلاء الصغار، أي أن نصيبهم من التركة يجب أن لا يؤخذ منه شيء ، أما لو تنازل أحد الكبار المرشدين عن نصيبه فهذا لا بأس به، لأنه ماله يتصرف فيه بما شاء.

أسأل الله أن يوفقنا للخير، ويهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال

والحمد لله رب العالمين

‫2 تعليقات

اترك رداً على خالد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى