مكانة العلماء
إن الحمد لله ..
أيها المسلمون .. العلماء ورثة الأنبياء، العلماء صمامُ الأمان بعد الله تعالى في أوقات الأزمات والشدائد، وهم سببٌ في اجتماع الأمة وتماسكِ الجبهة الداخلية، وصد المؤامرات التي يحيكها الأعداء لنشر الفتنة والفرقة.
ثبت هذا جليا للأمير والمأمور، والصغير والكبير، والقريب والبعيد.
ولا غرو في ذلك فعلماء الشريعة هم حملة الدين، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وهم ورثة الرسل، استشهد الله بهم على أعظم مشهود وهو توحيده جل وعلا {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].
العلماء من أولي الأمر الذين تجب طاعتهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59], قال أهل العلم: أولو الأمر: الأمراء والعلماء.
رفع الله قدرَهم ودرجاتِهم {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. العلماء هم أهل الخشية الحقة {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء} [فاطر: 28].
عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا: (إن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) [رواه أبو داود: (3641), والترمذي: (2682), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (6297).] .
وقال ابن عباس: “فقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد”.
أجور العالم مستمرة بعد موته، عن معاذ بن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (من علَّم علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل شيء) [رواه ابن ماجه: (240), وحسنه الألباني في صحيح الترغيب: (80).] .
قال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمهما الله: قلت لأبي، أيّ رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، قال: يا بُني، كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلفَ أو منهما من عوض؟!.
نعم .. العالم الرباني كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فكيف يكون الحال إذا فقدا ؟!.
ولهذا كان فقدهم شديدا وقعُهُ، عظيما أثرُهُ، فهم شموس الهدى ومصابيح الدجى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويهدون به من ضل إلى الهدى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه،
عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: (إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) [رواه البخاري: (100), ومسلم: (2673).] .
وعن الحسن – رحمه الله – قال: كانوا يقولون: موت العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
أخرج الدرامي في سننه عن أبي جناب رحمه الله قال: سألت سعيد بن جبير قلت: يا أبا عبد الله، ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم [رواه الدارمي (247), وقال محققه: إسناده صحيح.] .
قال الإمام أحمد رحمه الله: الناس محتاجون إلى العلم أكثرَ من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.
وقال ابن القيم رحمه الله: العلماء بالله وأمره هم حياة الوجود وروحه، ولا يُستغنى عنهم طرفة عين، فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات.
أيها الإخوة .. إن واجب الأمة مع علمائها يتلخص في أمور منها:
1. احترامهم وتوقيرهم ومحبتهم، وتربية النشء على ذلك.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعا: (ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه) [رواه أحمد: (22755), والحاكم: (421), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (5443).] . وأخذ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بركاب ناقة زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال: “هكذا أُمرنا أن نفعل لعلمائنا وكبرائنا” [رواه ابن عبد البر, في جامع بيان العلم: (832). قال العراقي في تخريج الإحياء (1/62): أخرجه الطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل إِلَّا أَنهم قَالُوا: «هَكَذَا نَفْعل» قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم.] .
قال سهل بن عبد الله رحمه الله: “لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم”.
وقال ابن تيمية – رحمه الله -: “يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله، موالاةُ المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء” [مجموع الفتاوى: (20/ 231).] . أ.هـ
ومن صور ذلك: زيارتُهم والاحتفاء بهم، وسؤالهم واستشارتهم، وإبرازهم وتقديمهم في المجالس ووسائل الإعلام ونحو ذلك.
2. الرجوع إليهم والصدور عن رأيهم لا سيما في الملمات والنوازل، فهم من أولي الأمر الذين أوجب الله طاعتهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
3. نشر مناقبهم، والكف عن أعراضهم، والذب عنهم.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته: “وعلماء السلف من السابقين ومَنْ بعدهم من التابعين من أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر؛ لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل” [متن الطحاوية بتعليق الألباني: (82).] .
وقال الحافظ ابن عساكر رحمه الله: “واعلم – يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته – أن لحومَ العلماء رحمةُ الله عليهم مسمومة، وعادةُ الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمرٌ عظيم، والتناولُ لأعراضهم بالزور والافتراء مرتعٌ وخيم، والاختلافُ على من اختاره الله فيهم لنشر العلم خلق ذميم” [“تبيين كذب المفتري” لابن عساكر: (29).] . وقال أبو حاتم الرازي رحمه الله: “علامة أهل البدع الوقيعةُ في أهل الأثر”.
وإن مما يؤسف له أن تطاول بعض الكتبة على بعض العلماء وتهجم وأساء الأدب، وهذا في الحقيقة تنفيذ لمخطط اليهود، كما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون قولهم :”وقد عنينا عنايةً عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين في أعين الناس وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كئوداً في طريقنا، وإن نفوذ رجالِ الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً “.
أيها الإخوة .. ومن مظاهر تنقص العلماء التي نحذر منها:
1. رميهم بالجهل بالواقع، وعدم الانفتاح على العالم، والتقوقع على متون الفقه. وهذا محض افتراء، فالعالم على اطلاع بما يجري في الواقع، لكنه لم ينجرف مع تيار التغريب، ولم يتأثر ويتنازل عن ثوابته كما رماه به ذلك اللامز.
والعجيب أن هذه الفريةَ قديمةٌ في التاريخ، فهذا أحد رؤوس البدعة في زمانه وهو عمرو بن عبيد يقول عن الحسن البصري وابن سيرين، وهما من كبار علماء التابعين: ألا تسمعون؟ ما كلامُ الحسن وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقةُ حيضٍ ملقاة. وهاهم اليوم يعيدون العبارة، فيقول بعضهم: علماؤنا علماء الحيض والنفاس.
وهذا كلام قبيح، يؤدي إلى إسقاط العالم ومكانتِهِ في الأمة، وإذا سقط العلماء تاهَ الناس وتخبطوا، واتخذوا رؤسا جهالا فأفتوا وتكلموا بغير علم، فضلوا وأضلوا.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
ومن مظاهر تنقص العلماء:
2. السخرية والاستهزاء بهم، إما بتقليد أصواتهم، أو بالسخرية من زيهم ومظهرهم، أو بالرسوم الكاريكاتيرية، أو التندر بفتاويهم وآرائهم في المجالس، وهذا نوع نفاق، لأن الله قال عن المنافقين: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]، ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65], وقد نزلت هذه الآية في قوم من المنافقين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء – يعنون رسول الله صلى لله عليه وسلم وأصحابَه – أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. فأنزل الله فيهم هذه الآية [رواه ابن جرير في تفسيره: (16912). وقال أحمد شاكر: صحيح الإسناد.] .
أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة، فإنهم لا يكفرون بذلك؛ لكنهم على خطر عظيم.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: “حق العاقل أن لا يستخف بثلاثة: العلماء والسلاطين والإخوان؛ فإن من استخف بالعلماء ذهبت آخرتُه، ومن استخف بالسلطان ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته”.
3. تتبع أخطائهم وزلاتهم، والفرحُ بها، ونشرُها بين الناس، والجرأةُ على تخطئتهم، والرد عليهم بتعالم وسوء أدب. وكل هذا له شواهد في مقالاتٍ نشرت في بعض الصحف، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ومع هذا أيها الإخوة .. فإن العلماء غيرُ معصومين، وقد يقع منهم الخطأ والوهم، فيبين الخطأ من الصواب، ويرد الخطأ على صاحبه مهما بلغ من العلم، لكن بأدب، ومن أهلٍ لذلك، وتحفظُ للعالم مكانتُه، وردُّ القول لا يعني إسقاطَ القائل. فالناس في هذا طرفان ووسط، فطرف جعلوا العلماءَ في منزلة الرسل تقديسا وعصمة، وطرفٌ أهدروا حق العلماء وتطاولوا على مكانتهم، وتوسط آخرون فعرفوا للعالم مكانته، مع عدم اعتقاد عصمته.
اللهم أرنا الحق حقا ..