العمل الصالح .. ثمرات وتنبيهات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وبعد
فهذه فوائد وشذرات، حول الأعمال الصالحات، نظمتها في ثلاث وقفات:
أولا: مقدمات ممهدات
ثانيا: ثمرات يانعات
ثالثا: تنبيهات مهمات
أولا: مقدمات ممهدات
1. العمل الصالح يراد به كل ما يحبه الله تعالى من قول وعمل،
وفسره ابن كثير في تفسيره (4/ 601) فقال: “هُوَ الْعَمَلُ الْمُتَابِعُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم”.
ويدخل في ذلك عمل الجوارح وعمل القلب، وأفراده لا تكاد تحصر، وهو مراتب ودرجات.
2. العمل الصالح قرين الإيمان في كتاب الله تعالى. والإيمان قول وعمل واعتقاد، فالعمل من مسمى الإيمان، وعطفه عليه من باب عطف الخاص على العام، كما قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}
[البقرة: 238]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة: 98]، وجبريل وميكائيل من الملائكة.
3. العمل الصالح عظيم عند الله، فهو يحبه ويرفعه ، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، وهذا كناية عن القبول، فالله يَقْبَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوَالَهُمْ الطيبة وَأَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ.
4. لا بد في العمل حتى يكون صالحا مقبولا عند الله تعالى من شرطين:
1) الإخلاص، بأن يكون الباعث وجهَ الله، لا رياء الناس وطلب حمدهم، أو إرادة شيء من الدنيا.
2) المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله جلَّ وعلا: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110]، وفي الحديث يقول الله جل وعلا: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» رواه مسلم
5. اجتهد في عمل الصالحات، فأنت في وقت الزرع والبذر
قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]، وقال جل وعلا: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد: 21]، ورغب عباده في هذا الميدان، فقال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات) [البقرة: 148].
(سَارِعُوا)(سَابِقُوا)(فاسْتَبِقُوا) نداءات ربانية لنا نحن العبيدُ الفقراء أن نعيَ الخطاب، ونكون من أولي الألباب.
اغتنم في الفراغ فضلَ ركوعٍ *** فعسى أن يكون موتُك بغتة
كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ *** ذهبت نفسُهُ الصحيحةُ فلتة
6. بادر قبل أن تأتيك القواطع والعوارض والموانع:
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك٬ وصحتك قبل سقمك٬ وغناك قبل فقرك٬ وفراغك قبل شغلك٬ وحياتك قبل موتك) رواه الحاكم وصححه الألباني
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال سًتا: طلوع الشمس من مغربها٬ أو الدخان٬ أو الدجال٬ أو الدابة٬ أو خاصة أحدكم٬ أو أمر العامة) رواه مسلم
قال حمَّادُ بن سلمة: ما أتينا سُليمان التيمي في ساعةٍ يُطاعُ اللهُ عز وجل فيها إلاَّ وجدناهُ مُطيعاً، فإن كانَ في ساعةِ صلاةٍ وجدنَاهُ مُصلياً، وإن لم تكن ساعةَ صلاةٍ وجدناهُ إمَّا متوضئاً أو عائداً مريضاً، أو مُشيعاً لجنازةٍ، أو قاعداً يُسبِحُ في المسجدِ، قال فكُنَّا نرى أنَّهُ لا يُحسنُ أن يعصي اللهُ عز وجل[ (صفة الصفوة) لابن الجوزي 3/ 297].
ثانيا: ثمرات يانعات:
ثمرات العمل الصالح يانعة عظيمة، لا تقتصر على الآخرة فحسب – كما يظنه بعض الناس -، بل تشمل الدنيا والآخرة، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لا يظلمُ مؤمنًا حسنةً، يُعطى بها في الدُّنيا ويُجزى بها في الآخرةِ» رواه مسلم
فمن تلك الثمرات:
1. حصول الحياة الطيبة.
قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [سورة النحل: 97]. جاء في تفسير ابن كثير (4/ 601): “الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ”.
ففمن كان يشتكي من الهموم والقلق وضيقة الصدر؛ فدونه الترياق المجرب لطيب الحياة: العمل الصالح.
2. الجزاء الحسن وتكفير السيئات.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)
[سورة العنكبوت: 7]. وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)
[سورة الرعد: 29]. وقال تعالى: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى) [سورة طـه: 75. 76].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة عين)” متفق عليه
3. حصول الفلاح.
وهو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ) [القصص: 67]
4. حصول الهداية.
قال جلَّ وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) [يونس: 9]
5. نيل محبة الله تعالى.
قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) رواه البخاري
6. محبة الْخَلْقِ
الْقُلُوبُ لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَيَقْذِفُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مَحَبَّةَ مَنْ يَعْمَلُ صَالِحًا، وَهَذَا أَمْرٌ مشاهد مَعْرُوفٌ. قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّ] [مريم: 96]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «مَحَبَّةٌ فِي النَّاسِ فِي الدُّنْيَا». وَقَالَ مُجاهد: «يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ إِلَى خَلْقِهِ».
وقال عبد الله بن عباس: “إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن, ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق”.
7. صَلَاحُ أَحْوَالِ الْعَبْدِ.
قال تعالى: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ] [محمد: 2]. أَيْ: أَصْلَحَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَقُلُوبَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَصْلَحَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ في الدنيا والآخرة.
8. العمل الصالح يدخلك في زمرة الصالحين.
وياله من شرف وفضل. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 9].
وحكى الله تعالى دعوة نبيه سليمانَ- عليه الصلاة والسلام – أنه قال:(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)
[سورة النمل: 19]، وقال عن يوسفَ – عليه الصلاة والسلام -: (أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [سورة يوسف: 101].
وإذا دخلت في الصالحين فالبشرى لك، فأنت في ولاية الله؛ {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين} [الأعراف: 196]. وأنت من خير الناس، [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ] [البينة: 7].
إن كون العبد من الصالحين اصطفاء واجتباء من الله تعالى، وهو حقيق أن يكون طموحا ومطلبا لكل مسلم، ألم تقرأ قوله تعالى عن نبيه يونس عليه السلام: (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِين) [القلم: 50].
9. حفظ أهل العامل وذريته.
وهذا من بركة العمل الصالح أنه لا يقتصر على صاحبه فحسب، بل يتعداه إلى ذريته.
قال تعالى عن الغُلامينِ اليتيمين في سورة الكهف: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) [سورة الكهف: 82].
فلقد حُفظ كنزُ اليتيمين بسببِ صلاحِ أبيهما وإن لم يُذكرا بصلاح. وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الصَّالِحِ سَبْعَةُ آبَاءٍ. قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (11/ 38): “فيه ما يدلُ على أنَّ اللهَ تعالى يحفظُ الصالحُ في نفسهِ وفي ولدهِ وإن بعدوا عنهُ”.
وقَالَ محمدُ بنُ المنكدر: «إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَعِتْرَتَهُ وَعَشِيرَتَهُ وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ».
10. إجَابَةُ الدُّعَاءِ
[وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ] [الشورى: 26] أَيْ: إِذَا دَعَوْهُ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَأَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوا وَزَادَهُمْ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ.
11. تَفْرِيجُ الْكُرُبَاتِ
قال صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) [رواه أحمد]، وكما فِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِين آوَوْا إِلَى الْغَارِ فَانْحَدَرَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ فَأَغْلَقَتْهُ؛ فنجاهم الله مِنْ هَذَا الْكَرْبِ والشدة بِأَعْمَالهم الصَالِحَة التي توسلوا بها، وفي قصة يونس عليه السلام شاهد وعبرة.
12. العمل الصالح سبب للخلافة في الأرض، والتمكين في الدين، وحلول الأمن بعد الخوف.
ألم تقرأ وعد الله الذي لا يخلف الميعاد: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة النـور: 55]
13. استمرار الأجر إذا تركه العبد لعذر يمنعه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعملُ مقيماً صحيحاً) [رواهُ البخاري]
14. حصول التسليم من المسلمين
العبد الصالح يسلم عليه كل مسلم في كل صلاة، وحسبك بهذا شرفا وفضلا.
قال عبدُ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: كُنَّا إذا صلينا خلفَ النبي صلى الله عليه وسلم قُلنا: السلامُ على جبريلَ وميكائيل، السلامُ على فلانٍ وفلان، فالتفتَ إلينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: (إنَّ اللهَ هو السلامُ، فإذا صلى أحدُكم فليقل: التحياتُ للهِ والصلواتُ والطيباتُ السلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ، السلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين، فإنَّكم إذا قُلتمُوها أصابت كل عبدٍ للهِ صالحٍ في السماءِ والأرضِ، أشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسوله) [رواه البخاري ومسلم].
قال ابن حجر في (فتح الباري) 2/ 314: “الأشهر في تفسير الصالح أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده وتتفاوت درجاته. قال الترمذي الحكيم: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبدا صالحا وإلا حرم هذا الفضل العظيم”.
ثالثا: تنبيهات مهمات
1. ينبغي سياسة النفس في العمل الصالح، بأن تؤخذ بالتدرج والرفق، مع الحزم والعزم، فلا يشدد على نفسه حتى يملها وينفرها، ولا يطلق لها العنان في الكسل والتسويف.
2. يحسن اغتنام المواسم الفاضلة – كرمضان وعشر ذي الحجة – بمزيد عناية واجتهاد في أنواع العمل الصالح،
فالنفس تكون مقبلة فيها، وهذا من حسن سياستها.
إذا هبت رياحُك فاغتنمها *** فإن العاصفاتِ لها سكونُ
3. احرص على القليل الدائم، فهو أفضل من الكثير المنقطع
سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ قالت: كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع؟. رواه مسلم. ومعنى قولها (ديمة) أي يدوم عليه ولا يقطعه.
وعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (أدومها وإن قل) وقال:
(اكلفوا من الأعمال ما تطيقون) [رواه البخاري]
وتخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملا أثبته. رواه مسلم
فإذا أثبت المسلمُ العملَ وداومَ عليه؛ سهُلَ عليه وراضت نفسُه له، ثم يزيد ويترقى في مدارج الكمال.
4. العمل الصالح كثير والعمر قصير، فاحرص على المسابقة والمسارعة إلى الأفضل، كالعمل المتعدي والذي يبقى أثره ونحو ذلك.
وهذا باب نفيس من أبواب العلم؛ الفقه في فضائل الأعمال ومراتبها.
قال ابن القيم في (حادي الأرواح) ص79: “السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات”.
5. التوجه إلى ما يناسب المرء ويجد فيه صلاح قلبه، وهذا من حسن سياسة النفس،
فإن ميول النفوس متفاوتة حتى في العبادات، فمن الناس من فتح له في الصلاة، ومنهم من فتح له في الذكر وقراءة القرآن، ومنهم من فتح له في الصوم، ومنهم من فتح له في العلم، أو في الجهاد أو في الاحتساب .. إلخ.
فعلى المرء أن ينظر ما يناسب نفسه ويجد فيه راحته وصلاح قلبه فيجتهد فيه.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه يُقِلُّ الصِّيَامَ، فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّكَ تُقِلُّ الصَّوْمَ، قَالَ: “إِنِّي إِذَا صُمْتُ ضَعُفْتُ عَنِ الصَّلاةِ، وَالصَّلاةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ”. المعجم الكبير للطبراني (8/ 91)
6. من أعظم ما يعين على المسارعة والحرص على العمل الصالح؛ تذكر قصر العمر، وأن الرحيل قريب، وهو غيب لا يدرى عنه، فربما بقي لك أيام معدودة، تزرع فيها ما تحصده لحياة أبدية سرمدية.
قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
العمل الصالح أمنية الميت، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100] لكن هيهات هيهات.
قال ابن مهدي: كنا مع الثوري جلوسا بمكة، فوثب وقال: النهار يعمل عمله.
وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: لَوْ قِيْلَ لِحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوْتُ غَدًا، مَا قَدِرَ أَن يَزِيْدَ فِي العَمَلِ شَيْئًا.
وقال الذهبي في ترجمة الحافظ ابن عساكر: كان مواظبا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب في غير طاعة.
قال نافع: خرج ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له ووضعوا السفرة، فمر بهم راعي غنم فسلم، فقال ابن عمر: هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: أتصوم في مثل هذا اليوم الحار الشديد سمومه وأنت في هذا الحال ترعى هذه الغنم؟! فقال: والله إني أبادر أيامي هذه الخالية.
وكان الحسن البصري يقول في موعظته: المبادرةَ المبادرة فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل.
فَمَا لَكَ يَوْمَ الْحَشْرِ شَيْءٌ سِوَى الَّذِي تَزَوَّدْتَهُ قَبْلَ الْمَمَاتِ إِلَى الْحَشْرِ
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرَتَ حَاصِدًا نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ الْبَذْرِ
7. التساهل في الأعمالِ الصالحةِ مظهر من مظاهر ضعفِ الإيمان وقسوةِ القلبِ والغفلة عن الآخرة.
وحين تمر المواسم الفاضلة يتباين الناس فيها، فمن مشمر يعمرها بأنواع العمل الصالح، ومن مفرط يغلبه الكسل عن صالح العمل.
أتعلم أيها المسلم أن عملك هو صاحبك في قبرك، حين يتخلى عنك أقرب الناس إليك، فيأتيك عملك على صورة رجل، فإن كان العمل صالحا جاء على صورة رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيتكلم ويقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد.
وإن كان العمل سيئا جاء على صورة رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسؤوك، هذا يومك الذي كنت توعد.
تزود قريناً من فعالكَ إنَما *** قرينُ الفتى في القبرِ ما كان يفعلُ
فلن يصحب الإنسانَ من بعدِ موتهِ *** إلى قبره إلاَّ الذي كان يعملُ
إِننا أَشدُّ مَا نكون حاجةً في هذا الزمن للعمل الصالح وتكثيره وتنويعه والديمومة عليه؛ لكثرة الفتن المحيطة بنا، والمحن التي تُطَوِّقُنَا، والكروبِ التي تتابعُ علينا، وفي العملِ الصالحِ مَنجاةٌ من الفتن، وثباتٌ في المحن، ومخرجٌ من الكروبِ.
وحينما ينشغل الناس في أوقات الفتن بمتابعة الأخبار والتحليلات، وتقليب القنوات، فعليك بالعبادة والعمل الصالح، عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) [رواه مسلم]
لا تنشغل عن عمل الصالحات بجمع حطام الدنيا، أو الكسل والنوم، أو السمر والرحلات المضيعة للأوقات، أو الانشغال بالجوالات أو القنوات.
ولئن كانت العجلة مذمومة، والتؤدة والتأني محمودا، فهي هنا ليست كذلك، روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (التؤدة في كل شيء خيرٌ إلا في عمل الآخرة) رواه أبو داوود وصححه الألباني
ولا تُرج فعلَ الخير يوما إلى غدٍ لعل غدا يأتي وأنت فقيد
اللهم وفقنا لتدارك الأوقات باغتنام الساعات في أعمال الخيرات والاستعداد للوفاة قبل الموافاة.