الإيمان بالله (1) (وجود الله)
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يسر كلًا لما خُلق له، وربك أعلم وأحكم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على الأثر. أيّها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فتقواه خيرُ زاد، وهي نعم العُدّةُ ليوم المعاد، (يا أيها الذين آمنوا تقوا الله حق تقاته …) [آل عمران:102].
الإيمان بالله هو أعظمُ المطالب، وأجلُّ المواهب، به تطمئنُ النفوس، وتنشرحُ الصدور، وتطيب الحياة، وتنبعث الهمم، ويأنس الحزين، ويسلو المهموم، وبه تُنال سعادة الدنيا والآخرة، (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
إن سألت عن أفضل الأعمال عند الله؟، فخذ الجواب فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى لله عليه وسلم سئل: (أي العمل أفضل؟ فقال: “إيمان بالله ورسولهِ”) [رواه البخاري: (26), ومسلم: (83)]
فإن قلت: كيف أحقق الإيمان بالله، وأكون مؤمنا بالله صدقا؟
فالجواب: يكون ذلك بأربعة أمور: أن تصدق تصديقا جازما بوجود الله، وبربوبيته، وبألوهيته، وبأسمائه وصفاته. فإذا جمعت هذه الأربع؛ فأنت مؤمن بالله حقا وصدقا.
أما وجود الله تعالى فقد دل عليه: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس.
1 – أما دلالة الفطرة على وجوده: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها لقول النبي صلى لله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: { فطرة الله التي فطر الناس عليها }[الروم:30] [رواه البخاري: (1358)]
2 – وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى: فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لا بد لها من خالق أوجدها إذ لا يمكن أن توجِد نفسَها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة.
لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها لأن الشيء لا يخلق نفسه، لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقا ؟.
ولا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن كل حادث لا بد له من محدث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعا باتا أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده، فكيف يكون منتظما حال بقائه وتطوره ؟!.
وإذا لم يمكن أن تُوجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها، ولا أن توجد صدفة تعين أن يكون لها موجد وهو الله رب العالمين.
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي في سورة الطور، حيث قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم رضي الله عنه رسول الله صلى لله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ}[الطور:37], وكان جبيرٌ يومئذ مشركا؛ قال: (كاد قلبي أن يطير [رواه البخاري: (4854).])، وفي رواية: (.. وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي)[رواه البخاري: (4023)]
ولنضرب مثلا يوضح ذلك، فإنه لو حدثك شخص عن قصر مشيد، أحاطت به الحدائق، وجرت بينها الأنهار، ومليء بالفرش والأسرة، وزين بأنواع الزينة، وقال لك: إن هذا القصر وما فيه قد أوجد نفسه، أو وجد هكذا صدفةً بدون موجد، لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثه سفها من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع بأرضه، وسمائه، وأفلاكه، وأحواله، ونظامه البديع الباهر، من الذرة إلى المجرة قد أوجد نفسه، أو وجد صدفة بدون موجد؟ !
3 – وأما دلالة الشرع على وجود الله تعالى: فلأن الكتب المنزلة كلها تنطق بذلك، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق دليلٌ على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.
4 – وأما أدلة الحس على وجود الله فمن وجوه:
الأول: أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى، قال الله تعالى: { وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ }[الأنبياء:76]، وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[الأنفال:9], وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أعرابيا دخل يوم الجمعة والنبي صلى لله عليه وسلم يخطب، فقال: (يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه ودعا، فثار السحاب أمثال الجبال، فلم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا. فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت ..)[رواه البخاري, واللفظ له: (933), ومسلم: (897).]
وما زالت إجابة الداعين أمرا مشهودا إلى يومنا هذا لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى، وأتى بشرائط الإجابة.
الوجه الثاني: أن (آيات الأنبياء) التي تسمى (المعجزات) ويشاهدها الناس، أو يسمعون بها، برهانٌ قاطع على وجود مرسلهم، وهو الله تعالى؛ لأنها أمورٌ خارجةٌ عن نطاق البشر، يجريها الله تعالى، تأييدا لرسله ونصرا لهم.
مثال ذلك: آية موسى صلى لله عليه وسلم حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فانفلق اثني عشر طريقا يابسا، والماء بينهما كالجبال.
وآية عيسى صلى لله عليه وسلم حيث كان يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله، قال الله تعالى عنه: {وَأُحْي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}[آل عمران:49].
ومحمد صلى لله عليه وسلم حين طلبت منه قريش آية، فأشار إلى القمر فانفلق فرقتين فرآه الناس.
فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى تأييدا لرسله، ونصرا لهم، تدل دلالة قطعية على وجوده تعالى.
الوجه الثالث: دلالة الخلق البديع المتقن في النفس والكون، (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)[الذاريات:21]، فهذه المخلوقات المحسوسة لا بد لها من خالق مبدع، وهو الله تعالى.
{ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}[إبراهيم:10]، وإنما يكون الشك فيما تخفى أدلته وتُشكل براهينه، فأما من له في كل شيء آيةٌ بل آيات شاهدة بأنه الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين فكيف يكون فيه شك؟!
وفي كـل شيء له آيةٌ | *** | تدل على أنه الواحد |
فواعجباً كيف يعصى الإله | *** | أم كيف يجحده الجاحد |
ولله في كل تحريكةٍ | *** | وتسكينةٍ أبداً شاهد |
فالرسل عليهم الصلاة والسلام إنما دعوا أممهم إلى عبادته وحده، لا إلى الإقرار به؛ فوجوده سبحانه وربوبيته وقدرته أظهر من كل شيء، فهو أظهر للبصائر من الشمس للأبصار. وسئل أعرابي: ما الدليل على وجود الله تعالى؟ فقال: يا سبحان الله! البعر يدل على البعير، والأثر يدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
عباد الله .. ومع ظهور هذه الأدلة والبراهين إلا أن طائفة من الناس انتكسوا عن الفطرة فكفروا بالله وأنكروا ما جاءت به الرسل، وهذا ما يسمى بالإلحاد أو اللادينية.
والعجب العجاب أن تظهر بوادره في بلاد التوحيد، وهذه بادرة خطيرة، وسابقة عظيمة، تتطلب وأد الشر في مهده،
ومن الخطوات العملية في علاج هذا الشر ودفعه:
1. الحذر من كتب الشبه والإلحاد، ولو كانت في صور روايات أو مجلات، فإن الشبه خطافة، والقلب ضعيف، والسلامة لا يعدلها شيء.
2. الحذر واليقظة من الموجة الدارجة بإطلاق حرية الفكر والرأي والانفتاح على العالم. فهذا مركب غرق بسببه بعض شبابنا الذين تربوا في محاضن التوحيد ودرسوا مقرراتنا بسبب هذا الانفتاح مع ضعف الدين والعلم، فأوقعهم ذلك في قلق فكري، وحيرة وشك في الغيبيات والثوابت القطعية.
3. الرقابة والتنبه من قبل ولي الأمر لما يعرض في النت والفضائيات، فإن بعض الشباب تأثرت أفكارهم، واهتزت عقائدهم بسبب ما يقرأونه في بحر الأنترنت حيث لا رقيب ولا حسيب.
4. الاحتساب على من يعرف منه بث ذلك في مجالسه أو كتاباته أو مكتباته، وقد رأينا أثر ذلك لما هب الناس هبة واحدة محتسبين على من تجرأ على ثوابت الدين وأصوله. وعلى ولاة الأمر الحزم مع من تجاوز حده، بإقامة الحدود والتعزيرات الرادعة.
عن سليمان بن يسار رحمه الله: (أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله صبيغ، فقال: وأنا عبد الله عمر، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى دمى رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي)[رواه الدارمي (146), قال محققها, حسين أسد: رجاله ثقات غير أنه منقطع سليمان بن يسار لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.]
وقال الإمام الشافعي: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام)[الحلية: (9/ 116), وجامع بيان العلم وفضله: (2/ 941).]
5. احتواء الشباب وغرس العقيدة الصحيحة وتعميق الإيمان في نفوسهم، فقد اجتمعت عليهم فتن الشهوات والشبهات، وهذه مهمة كبرى على عواتق المعلمين والمربين.
6. على وسائل الإعلام واجب كبير في التحذير والتحصين وبيان خطر الأمر.
إذا كان الله تعالى قال عن قوم (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) [مريم:90], فكيف بمن أنكر الرب أو شك في وجوده، فكيف بمن دعا الشباب إلى الشك في وجوده (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) [الكهف:5]
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، غير مبدلين ولا مغيرين، اللهم حبب إلينا الإيمان ..