ملفات دعوية مختصرةمواسم فاضلة

يوم الجمعة: فضائل وأحكام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد

فإن الله تعالى بحكمته فضَّل بَعْضَ الْأَيّامِ وَالشّهُورِ عَلَى بَعْضٍ، كما فضل بعض الأمكنة على بعض، وكما فضل بعض البشر على بعض، فشَهْرُ رَمَضَانَ خِيرَة الله مِنْ شُهُورِ الْعَامِ، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ خِيرَتُهُ مِنْ اللّيَالِيِ، وَمَكّةُ خِيرَتُهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَمُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم خِيَرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]

وإن من الأزمنة الفاضلة: يومَ الجمعة، فهو يومٌ عظيم، فضله الشرع، وميزه بخصائصَ لا يشاركه فيها غيرُه.

عن أبي لبابة ابن عبد المنذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن يومَ الجمعة سيدُ الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل اللهَ فيها العبدُ شيئا إلا أعطاه ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة. ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة”[1]رواه أحمد: (9208), وابن ماجه: (1084), وحسنه الالباني في صحيح الجامع: (2279).

وهو خير أيام الأسبوع، كما أن يوم النحر خيرُ أيام العام.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خير يوم طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة”[2]رواه مسلم: (854).

وهو عيدٌ من أعياد المسلمين يتكرر كل أسبوع.

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – في يوم الجمعة -: “إن هذا يومُ عيدٍ جعله الله للمسلمين فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل”[3] رواه ابن ماجة: (1098) وحسنه الالباني في صحيح ابن ماجة. ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال – في يوم عيد وافق يوم الجمعة -:” قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون” رواه أبو داود: (1073), وصححه الألباني, في صحيح الجامع: (4365).

وكان يسمى في الجاهلية يومَ العروبة، فسمي في الإسلام يوم الجمعة لأن خَلْقَ آدم جُمع فيه، ولأن الناس يجتمعون فيه للصلاة [4] ينظر: فتح الباري: ( 2/411).

وهو الْيَوْمُ الّذِي تَفْزَعُ مِنْهُ السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ وَالْخَلَائِقُ كُلّهَا إلّا الْإِنْسَ وَالْجِنّ، فعن أبي لبابة ابن عبد المنذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : “ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة”[5] رواه أحمد: ( 15548) وابن ماجه: ( 1084 ), وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 2279). ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تطلع الشمس ولا تغرب على أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع يومَ الجمعة إلا هذين الثقلين الجن والإنس” رواه أحمد: (7673), وابن حبان: (2770) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب: (ص293).

وَذَلِكَ أَنّهُ الْيَوْمُ الّذِي تَقُومُ فِيهِ السّاعَةُ، وَيُطْوَى الْعَالَمُ، وَتَخْرَبُ فِيهِ الدّنْيَا، وَيُبْعَثُ فِيهِ النّاسُ إلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ الجنة والنار.

ويوم الجمعة من الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه في قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3 ]، وجاء هذا التفسير عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهم[6] ينظر: تفسير الطبري (24/334), وتفسير ابن كثير (8/365).

ومعنى الآية يتناول كل شاهد؛ كالنبي صلى الله عليه وسلم شاهدٌ على هذه الأمة، وهذه الأمة شهداء على الناس، وأعضاء الإنسان تشهد عليه، ويوم الجمعة شاهدٌ لمن حضره وقام بحقه.

ويوم الجمعة يَوْمُ اجْتِمَاعِ النّاسِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِالْمَبْدَأ وَالْمَعَادِ، وَقَدْ شَرَعَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلّ أُمّةٍ فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا يَتَفَرّغُونَ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِتَذَكّرِ الْمَبْدَأ وَالْمَعَادِ وَالثّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَيَتَذَكّرُونَ بِهِ اجْتِمَاعَهُمْ يَوْمَ الْجَمْعِ الْأَكْبَرِ قِيَامًا بَيْنَ يَدَيْ رَبّ الْعَالَمِينَ، وهو اليوم الذي ادّخَرَهُ اللّهُ لِهَذِهِ الْأُمّةِ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا.

ولما كان هذا اليوم بهذه المنزلة فقد خصه الشارع بخصائص تميزه عن غيره.

الخاصية الأولى: صلاة الجمعة

وهِيَ مِنْ آكَدِ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مجامع المسلمين، وهي أعظم من كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عَرَفَةَ، وَمَنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللّهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَقُرب أَهْلَ الْجَنّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَبَقَهُمْ إلَى الزّيَارَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ بِحَسْبِ قُرْبِهِمْ مِنْ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتَبْكِيرِهِمْ.

عن أبي هريرة و ابن عمر رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: “لينتهين أقوام عن ودعهم – أي تركهم – الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين” [7] رواه مسلم: (865)؛ ينظر: أحاديث أخرى, في تحفة الأحوذي عند حديث رقم: (500).

قال النووي: وَمَعْنَى الْخَتْم الطَّبْع وَالتَّغْطِيَة[8] المنهاج في شرح مسلم: (6/152) .

وقد خُصّتْ هذه الصلاة مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الصّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ بِخَصَائِصَ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَاشْتِرَاطِ الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِيطَانِ وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ، والوعيد الشديد على تركها.

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنّ الْجُمُعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة : 9], والأكثرون على أن ذكر الله في الآية؛ المراد به: صلاة الجمعة.

وأما مبدأ الجمعة فجاء فيما رواه عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْت قَائِدَ أَبِي حِينَ كُفّ بَصَرُهُ فَإِذَا خَرَجْتُ بِهِ إلَى الْجُمُعَةِ فَسَمِعَ الْأَذَانَ بِهَا؛ اسْتَغْفَرَ لِأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بنِ زُرارة فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ، فَقُلْت: إنّ هَذَا لَعَجْزٌ أَلَا أَسْألَهُ عَنْ هَذَا فَخَرَجْتُ بِهِ كَمَا كُنْتُ أَخْرُجُ فَلَمّا سَمِعَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ اسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقُلْت: يَا أَبَتَاهُ أَرَأَيْتَ اسْتِغْفَارَك لِأَسْعَدَ بْنِ زُرارة كُلّمَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيّ كَانَ أَسْعَدُ أَوّلَ مَنْ جَمَعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَزْمِ النّبيتِ مِنْ حَرّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الخَضَماتِ . قُلْتُ: فَكَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا[9] رواه أبو داود: ( 1069) وابن ماجة: (1082), والدارقطني: (1585) وحسنه الألباني في إرواء الغليل: (600). وجاء في بعض الروايات أن مصعب بن عمير أول من جمَّع, ينظر: الإرواء ( 3/68)، وينظر الخلاف في زمن مشروعيتها في: الموسوعة الفقهية (27/192).

قال الإمام أحمد في مسائل ابنه عبد الله: ” قد جمع بهم أسعدُ بنُ زرارة وكانت أولَ جمعة جمعت في الإسلام, وكانوا أربعين رجلا ” [10]مسائل أحمد بن حنبل, رواية ابنه عبد الله: (ص 120), وينظر الإرواء: (3/67).

ثُمّ هاجر رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةَ فَأَقَامَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَسّسَ مَسْجِدَهُمْ ثُمّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَصَلّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَكَانَتْ أَوّلَ جُمُعَةٍ صَلّاهَا بِالْمَدِينَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ تَأْسِيسِ مَسْجِدِهِ، ولم يصلها صلى الله عليه وسلم قبل ذلك في مكة.

ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا وصلاة الجمعة تقام في بلاد المسلمين كل جمعة في مشارق الأرض ومغاربها، وتعلن ويجهر بها كشعيرة من أعظم شعائر الدين الظاهرة.

الخاصية الثانية: خطبة الجمعة

وهذه الْخُطْبَة يُقْصَدُ بِهَا الثّنَاءُ عَلَى اللّهِ وَتَمْجِيدُهُ وَالشّهَادَةُ لَهُ بِالْوَحْدَانِيّةِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالرّسَالَةِ، وَتَذْكِيرِ الْعِبَادِ بِأَيّامِهِ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ بَأْسِهِ وَنِقْمَتِهِ وَوَصِيّتِهِمْ بِمَا يُقَرّبُهُمْ إلَيْهِ وَإِلَى جِنَانِهِ وَنَهْيِهِمْ عَمّا يُقَرّبُهُمْ مِنْ سُخْطِهِ وَنَارِهِ، فَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْخُطْبَةِ وَالِاجْتِمَاعِ لَهَا.

ونص الفقهاء رحمهم الله أن تقدم خطبتين على الصلاة شرط لصحتها لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

وجاء عن سعيد بن المسيب في قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة: 9] أن َالذِّكْرَ هُوَ الْخُطْبَةُ.

ويروى َعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَصُرَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ[11]وهو مروي أيضا عن عائشة رضي الله عنها, قال الألباني في الإرواء 3/74: “لم أقف عليه عنها – أي عائشة – وأما عن عمر فضعيف لانقطاعه”.

وكانت ولا زالت خطبتا الجمعة وسيلةً من أعظم وسائل الدعوة إلى الله، بتعليم العلم النافع، وتذكير الناس ووعظهم، والتنبيه على الأخطاء والمخالفات، وغير ذلك.

وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يخطب على منبر قدره ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ وَكَانَ قَبْلَ اتّخَاذِهِ يَخْطُبُ إلَى جِذْعٍ فقالت امْرَأَة مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا؟ قَالَ: إِنْ شِئْتِ، قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ: بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ[12] رواه البخاري: (3584).

وكَانَ الْحَسَنُ إِذَا حدَّث بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى ثُمَّ قَالَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إِلَيْهِ لِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إلى لقائه [13] رواه ابن حبان: (6473), ورواه ابن الجعد في مسنده: (3219) بلفظ: أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَيْهِ.

ومما ينبه عليه في موضوع الخطبة أمور:

1. وجوب الإنصات:

فيجب على الحاضرين الإنصات للخطبة إلى الفراغ منها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ” [14] رواه البخاري (934), ومسلم (851). ويفسره حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة ” رواه أحمد: (2033), قال ابن حجر في بلوغ المرام (451) إسناده لا بأس به. فمعنى لغوت: أي يفوته أجر الجمعة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا”[15]رواه مسلم (857).

ففرّق بين الاستماع والإنصات، فالاستماع: الإصغاء، والإنصات: السكوت.

عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يحضر الجمعة ثلاثةُ نفر؛ رجل حضرها يلغو وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عز وجل يقول: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}”[16]رواه أبو داود (1113), واحمد (7002), وحسنه الألباني في صحيح الجامع (8046).

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو) : أَيْ مُشْتَغِلًا بِالدعاء حَال الْخُطْبَة حَتَّى مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ أَصْل سَمَاعه أَوْ كَمَالِهِ، فهذا إن شاء أعطاه وإن شاء منعه عِقَابًا عَلَى مَا أَسَاءَ بِهِ مِنْ اِشْتِغَاله بِالدُّعَاءِ عَنْ سَمَاع الْخُطْبَة فَإِنَّهُ لَا يَجُوز[17] من عون المعبود: (3/325), بتصرف يسير، وانظر: فتوى للشيخ ابن عثيمين عن حكم الدعاء أثناء خطبة الجمعة, في المجموع ( 16/104).

فالمشروع المسلم الإِقْبَالُ عَلَى الْخُطْبَة بقلبه وجوارحه، فينصت ويستمع، ولا يشتغل بأي أمر يشغله، كالجوال أو السواك أو العبث بالسجاد أو بالأصابع أو غير ذلك.

ويحسن التنبيه هنا على بعض المسائل، فمنها:

أ. السلام: فلا يجوز لمن دخل والإمام يخطب أن يسلم، فإن فعل فلا يجوز رد السلام عليه، لأن هذا كلام، وإنما يشير إليه بيده في الرد عليه.

بب. العطاس: فمن عطس أثناء الخطبة فيحمد سرا لا جهرا، فإن جهر فلا يجوز تشميته.

ج. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، والتأمين على الدعاء: لا بأس به، لكن يكون سرا، لئلا يشوش على غيره.

 

2. الحذر من الانشغال عن الخطبة:

للحديث السابق (ومن مس الحصى فقد لغا) [18]سبق تخريجه. ، فدل هذا الحديث على النَّهي عن مَسِّ الْحَصَى وَغَيْره مِنْ أَنْوَاع الْعَبَث فِي حَالَة الْخُطْبَة, وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى إِقْبَال الْقَلْب وَالْجَوَارِح عَلَى الْخُطْبَة.

وحين نتأمل؛ نجد أن المسلم يحضر في العام أكثر من خمسين خطبة، فما هو الأثر؟.

ههل رقت قلوبنا؟ هل زاد إيماننا؟ هل صلحت أحوالنا؟ هل تهذبت أخلاقنا؟ هل زادت حصيلتنا من العلم الشرعي النافع؟.

إنها دعوة للخطيب والمستمع أن يولوا هذه الشعيرة حقها، ويزيدوا في الاهتمام بها.

 

3. الحذر من تخطي الرقاب:

فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر رجلاً يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقال له: ” اجلس، فقد آذيت وآنيت” [19]رواه ابن ماجة: ( 17697), وأحمد: (1115), وصححه الألباني في صحيح الجامع): 155).

ققَوْله (آذَيْت) أَيْ النَّاس بِتَخَطِّيك، (وَآنَيْت) كَآذَيْتَ وَزْنًا، أَيْ أَخَّرْت الْمَجِيء وَأَبْطَأْت.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة؛ كان كفارةً لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا” [20] رواه أبو داود: (347), وابن خزيمة: (1810), وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: (375).

ومما يتعلق بهذا ما يفعله بعض الناس من حجز مكان لهم يوم الجمعة، ثم يحضر متأخرا ويتخطى رقاب الناس، ويحصل هذا في بعض الجوامع الكبيرة كالحرمين الشريفين، وهذا لا يجوز، قال ابن تيمية: “ليس لأحد أن يفرش شيئا ويختص به مع غيبته ويمنع به غيره، هذا غصبٌ لتلك البقعة ومنع للمسلمين مما أمر الله تعالى به من الصلاة. والسنة أن يتقدم الرجل بنفسه، وأما من يتقدم بسجادة فهو ظالم ينهى عنه، ويجب رفع تلك السجاجيد ويمكن الناس من مكانها”[21] فتاوى ابن تيمية 24/ 216

ويستثنى من التحريم صورتان:

الأولى: إذا كان في المسجد وخرج لعارض كقضاء حاجة أو تجديد وضوء، ونحو ذلك، فله ذلك، وهو أحق بالمكان.

الثانية: إذا كان في المسجد لم يخرج منه.

 

4. الدنو من الإمام:

عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” احضروا الذكر وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها ” [22] رواه أبو داود: (1108), وأحمد: (20118), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (200).

وعن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، وبكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة؛ أجر صيامها وقيامها” [23] رواه أبو داود: (345), وأحمد: (16173), وصحح إسناده الألباني في صحيح أبي داود: (373).

وقوله: بَكَّرَ – بِالتَّشْدِيدِ – أَيْ رَاحَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَابْتَكَرَ أَيْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ.

والدنو من الإمام أقرب إلى حضور القلب، والانتفاع من الخطبة، وهو علامة على الاهتمام والحرص عليها.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله ” [24] رواه مسلم: (438).

 

5. النعاس في الخطبة:

فقد جاءت السنة بالتنبيه على هذا الأمر وعلاجه، وذلك فيما رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره ” [25] رواه أحمد (4875), والترمذي (526), وصححه ابن خزيمة (1819), والألباني, في الصحيحة (468).

قَوْلُهُ: (فَلْيَتَحَوَّلْ) أَيْ فَلْيَنْتَقِلْ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ. قال أهل العلم: وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِالتَّحَوُّلِ أَنَّ الْحَرَكَةَ تُذْهِبُ النُّعَاسَ.

 

6. الحبوة في الخطبة:

عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب [26]رواه أبو داود (1110), والترمذي (514), وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6876)، وضعفه غيره. وتنظر المسألة في: تحفة الأحوذي, عند الحديث رقم: (514).

والْحُبْوَة: هِيَ أَنْ يجلس الإنسان على مقعدته، وينصب ساقيه، ويجمع رجليه إلى بطنه بِثَوْبٍ يَجْمَعهُمَا بِهِ مَعَ ظَهْره، وَقَدْ يَكُون الِاحْتِبَاء بِالْيَدَيْنِ عِوَض الثَّوْب.

والحديث متكلم فيه، فإن كان يترتب على الاحتباء انكشاف العورة فهو محرم، وإن كان يجلب النعاس فهو مكروه، ولذا من أراد الاحتباء فليحتب بيديه، كي ينتبه إن ورد عليه النعاس ومبادئ النوم، بخلاف من احتبى برباط فإنه ربما نام ولم يشعر.

وإن لم يترتب على الاحتباء شيء مما سبق فهو جائز.

 

الخاصية الثالثة: اسْتِحْبَابُ كَثْرَةِ الصّلَاةِ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم

لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: “أَكْثِرُوا الصّلَاةِ عَلَيّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ” [27] رواه البيهقي في الكبرى: (5994), وصححه الألباني, في الصحيحة: (1407), وقال: (حسن على أقل الدرجات، وهو صحيح بدون ذكر ليلة الجمعة).

وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَيّدُ الْأَنَامِ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ سَيّدُ الْأَيّامِ، فَلِلصّلَاةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَزِيّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ.

وحسبكم في الصلاة عليه ما رواه أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشرُ خطيئات، ورفعت له عشرُ درجات” [28] رواه النسائي: (1297), وأحمد: (11998), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (6359).

والمراد بصلاة الله على العبد أن يثني عليه في الملأ الأعلى. فإذا سألت الله أن يثني على رسوله مرة واحدة؛ أثنى الله عليك باسمك عشر مرات في الملأ الأعلى.

 

الخاصية الرابعة: مشروعية الاغْتِسَالِ

وَهُوَ مُؤَكّدٌ جِدّا، والجمهور على استحبابه، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ” [29] رواه البخاري واللفظ له: (895), ومسلم:( 846).

ووقت الغسل يوم الجمعة يبدأ من طلوع الفجر الثاني، والأفضل أن يكون الغسل عند الرواح إلى الجمعة، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل “ [30] رواه البخاري: (877), ومسلم: (881).

 

الخاصية الخامسة: استحباب التّطَيّبُ

وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ التّطَيّبِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَيّامِ الْأُسْبُوعِ.

 

الخاصية السادسة: استحباب السّوَاكُ

وَلَهُ مَزِيّةٌ عَلَى السّوَاكِ فِي غَيْرِهِ.

 

الخاصية السابعة: استحباب لبس أَحْسَنُ الثّيَابِ

لأنه عيد الأسبوع ومجمع من مجامع المسلمين، فيحضره المسلم نظيفا طيب الرائحة.

عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى “ [31] رواه البخاري: (883).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواكٌ، ويمس من الطيب ما قدر عليه”[32]رواه مسلم: (846).

وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة كان كفارةً لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا” [33]رواه أبو داود: (347), وابن خزيمة: (1810), وحسنه الألباني في صحيح ابي داود: (375).وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: “ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لِجُمُعَتِهِ سوى ثوبي مهنته” رواه ابن ماجة: (1096), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (5635)؛ [وفي الباب حديث أبي أيوب: رواه أحمد: (23571), وابن خزيمة: (1775) وحسن اسناده الألباني؛ وفيه ايضا عن أبي هريرة وأبي سعيد وأبي ذر رضي الله عنهم].

 

الخاصية الثامنة: استحباب التبكير إلى الجمعة

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر” [34] رواه البخاري: (881), ومسلم: (850).

ومعنى الحديث أن يقسم الزمن بين طلوع الشمس وخروج الإمام خمسة أقسام، فيكون كل قسم هو الساعة المذكورة في الحديث.

وجاء عن عَبْدُ اللّهِ بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سَارِعُوا إِلَيَّ الْجُمَعِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ، فَيَكُونُونَ فِي الدُّنُوِّ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْجُمَعِ، فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِيمَا خَلَا، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ فَيُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا قَدْ أَحْدَثَ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ ” قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَسْبِقُهُ أَحَدٌ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَجَاءَ يَوْمًا وَقَدْ سَبَقَهُ رَجُلَانِ، فَقَالَ: «رَجُلَانِ وَأَنَا الثَّالِثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ يُبَارِكُ فِي الثَّالِثِ» [35]رواه ابن بطة في الابانة (31) واللفظ له, وابن خزيمة في التوحيد (2/ 893), والدارقطني في كتابه (رؤية الله) (165), وقال الإمام الذهبي: أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى بإسناد جيد؛ ينظر: (مختصر العلو للعلي الغفار) للألباني (104).

والواقع المشاهد؛ التفريطُ الكبير في هذا الخير، حتى فاتت البيضة على كثير من المصلين، لأنه لم يحضر إلا بعد خروج الإمام!.

 

الخاصية التاسعة : قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ

لقول أبي سعيد رضي الله عنه: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق [36] رواه البيهقي في الشعب (2220) مرفوعا وموقوفا، وقال: “الْمَحْفُوظُ مَوْقُوفٌ”, وصححه الألباني مرفوعا في صحيح الجامع (6471).

وعنه رضي الله عنه قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. [37] أخرجه الدارمي (2/ 546)، وصححه الألباني في (صحيح الترغيب) (736)

ومثله لا يقال من قبيل الرأي فله حكم الرفع.

فيكون وقت قراءتها ليلة الجمعة ويوم الجمعة.

 

الخاصية العاشرة: استحباب تطييب المسجد

لما جاء عن عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رضي الله عنه أنه أمر أن يجمر المسجد – مسجد المدينة – كل يوم جمعة حين ينتصف النهار” [38] أورده الضياء المقدسي في (السنن والأحكام) (2175), وقال: رواه سعيد بن منصور؛ ورواه ابن ابي شيبة (2/363), وأبو يعلى (190), دون تقييده بنصف النهار, وقال محقق أبي يعلى: إسناده ضعيف.

فينبغي للقائمين على الجوامع أن يراعوا هذا الأمر, ويحرصوا على تطييب المسجد في هذا الوقت.

 

الخاصية الحادية عشرة: يوم المغفرة والتكفير

فهو يوم تكفير السيئات، واليوم الذي يغفر الله لعبده ما ارتكب ما بين الجمعتين من آثام وخطايا، إذا اجتَنب الكبائر، كما قال صلى الله عليه وسلم: “الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر”. [39] رواه مسلم: (233).

بل إن ذلك الثواب يتعدى الأسبوع إلى عشرة أيام، لأن الحسنة بعشرة أمثالها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا “ [40]رواه مسلم: (857).

 

الخاصية الثانية عشرة: عدم تسجير جهنم فيه

فنار جَهَنّمَ تُسَجّرُ كُلّ يَوْمٍ إلّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ .

قال ابن القيم: “وَسِرّ ذَلِكَ – وَاَللّهُ أَعْلَمُ – أَنّ الجمعة أَفْضَلُ الْأَيّامِ عِنْدَ اللّهِ وَيَقَعُ فِيهِ مِنْ الطّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالدّعَوَاتِ وَالِابْتِهَالِ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يَمْنَعُ مِنْ تَسْجِيرِ جَهَنّمَ فِيهِ . وَلِذَلِكَ تَكُونُ مَعَاصِي أَهْلِ الْإِيمَانِ فِيهِ أَقَلّ مِنْ مَعَاصِيهِمْ فِي غَيْرِهِ حَتّى إنّ أَهْلَ الْفُجُورِ لَيَمْتَنِعُونَ فِيهِ مِمّا لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ فِي يَوْمِ السّبْتِ وَغَيْرِهِ. والْمُرَادَ سَجْرُ جَهَنّمَ فِي الدّنْيَا وَأَنّهَا تُوقَدُ كُلّ يَوْمٍ إلّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَمّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنّهُ لَا يَفْتُرُ عَذَابُهَا وَلَا يُخَفّفُ عَنْ أَهْلِهَا الّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا يَوْمًا مِنْ الْأَيّامِ، وَلِذَلِكَ يَدْعُونَ الْخَزَنَةَ أَنْ يَدْعُوَا رَبّهُمْ لِيُخَفّفَ عَنْهُمْ يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ فَلَا يُجِيبُونَهُمْ إلَى ذَلِكَ”. [41]زاد المعاد: (1/375).

 

الخاصية الثالثة عشرة: ساعة الإجابة

وَهِيَ السّاعَةُ الّتِي لَا يَسْأَلُ اللّهَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فِيهَا شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ.

عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: “إنّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي يَسْأَلُ اللّهَ شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ إيّاهُ، وَقَالَ بِيَدِهِ يُقَلّلُهَا”. [42] رواه البخاري (935)، ومسلم (852).

وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر” . [43]رواه أبو داود: (1048), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (8190).

وعن أَبِي سَلَمَة بن عَبْد اَلرَّحْمَن أَنَّ نَاسًا مِنْ اَلصَّحَابَةِ اِجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا سَاعَة اَلْجُمُعَة ثُمَّ افتَرَقُوا فَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا آخِرُ سَاعَة مِنْ يَوْم اَلْجُمُعَةِ.[44]رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح, قاله الحافظ في “الفتح” ( 2/421), ووافقه الألباني في ضعيف أبي داود: (1/398).

فهذا قول جمهور الصحابة والتابعين.

فهي زمن يسير في آخر ساعة بعد العصر. قَالَ ابن عُمَرُ : إنْ طَلَبَ حَاجَةٍ فِي يَوْمٍ لَيَسِيرٌ.

وما منا أحدٌ إلا وله حاجات ورغبات في دنياه وأخراه، فما أجمل أن يغتنم المسلم مثل هذه الساعات وينطرح بين يدي مولاه سائلا متضرعا، مخبتا ومبتهلا إليه فدونكم هذه الساعة في هذا اليوم، وفي كل جمعة.

 

أحكام فقهية مهمة

لعل من المهم والمفيد التنبيهَ على بعض الأحكام المتعلقة بيوم الجمعة، فمن ذلك:

1. يحرم السفر على من تلزمه الجمعة بعد النداء الثاني إلا لضرورة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].

ويستثنى من التحريم صورتان:

أ‌. إذا خاف فواتَ الرفقة، ونحوه أن يخشى فوات الطائرة.

ب‌. إن كان يمكنه أن يأتي بالجمعة في طريقه، لأن علةَ التحريمِ خوفُ فواتِ الجمعةِ وقد زالت هنا.

وأما السفر قبل النداء الثاني فهو جائز، وإن كان يترتب على سفره قبل النداء تفويت الجمعة؛ فالأفضل أن يؤخره بعد الصلاة لئلا يفوته فضل الجمعة.

والمسافرُ على الصحيح تنعقدُ به الجمعةُ، ويصح أن يكون إماما وخطيبا فيها، لعدم الدليل على المنع.

 

2. صلاة الجمعة صلاة مستقلة فليست ظهرا ولا بدلا عن الظهر، ويترتب على ذلك أنها لا تجمع مع العصر، لأن الذي يجمع مع العصر هو صلاة الظهر.

ومن صور ذلك ما يحصل لبعض الناس حين يكون في مكة ويريد السفر بعد صلاة الجمعة، فإذا صلى الجمعة في الحرم قام وصلى العصر ركعتين، والصواب: أنه لا يصلي العصر بل يسافر، فإذا دخل وقت العصر صلاها قصرا حيث أدركته الصلاة.

 

3. يكره تخصيص يوم الجمعة بصيام، أو تخصيص ليلتها بقيام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم” [45] رواه مسلم: (1144). ؛ والمنهي عنه تخصيصه أما إن وقع في صوم معتاد كيوم عرفة، أو صام يوما قبله أو بعده فلا بأس.

 

4. ليس للجمعة سنة قبلية، بل يصلي المسلم ما قدر له قبل الصلاة، وأما بعد الصلاة فالسنة أن يصلي بعدها أربعا، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا “ [46]رواه مسلم: (881). .

 

5. صلاة الجمعة لا تجوز إقامتها في البراري، بل لابد أن يكونوا مقيمين مستوطنين ببلد، ثلاثة فأكثر، وعلى هذا فلو خرج جماعة إلى البر للنزهة فإنهم لا يصلون الجمعة ولو كانوا مائة ولا تصح منهم لو صلوها، بل يصلونها ظهرا، وهكذا سكان البادية الذين لم يقيموا بالمكان.

 

6. إدراك الجمعة يكون بإدراك ركعة منها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة” [47] رواه البخاري: (580), ومسلم: (607). ؛ فمن دخل مع الإمام بعد قيامه من الركعة الثانية فيجب عليه أن يصليها ظهرا أربعا.

 

7. إذا دخل المسلمُ المسجدَ والمؤذن يؤذن الثاني، فإنه يصلي تحية المسجد ولا يشتغل بإجابة المؤذن لأجل أن يتفرغ لاستماع الخطبة، لأن استماعها واجب، وإجابة المؤذن سنة، والواجب مقدم.

 

أيها المسلمون .. عظموا هذا اليوم واغتنموا بركته وخيره، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فقد كان مِنْ هَدْيِهِ تَعْظِيمُ هَذَا الْيَوْمِ وَتَشْرِيفُهُ وَتَخْصِيصُهُ بِعِبَادَاتٍ يَخْتَصّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، ومن نعمة الله أنه يومُ إجازة، فلئن اشتغل المرء بالنزهة واللعب مع أصحابه وأولاده يومَ السبت، فما أجمل أن يكون يومُ الجمعة نزهةً روحية يتصل بها العبد مع ربه ويغلب فيه جانب التعبد بالمكث في المسجد، والإكثار من ذكر الله وتلاوة القرآن، وتحري ساعة الإجابة والتضرع إلى المولى بالدعاء والطلب.

يا من إليه جميعُ الخلقِ يبتهلُ *** وكل حيٍّ على رحماهُ يتكلُ
أنت الملاذُ إذا ما أزمةٌ شملت *** وأنت ملجأُ من ضاقتْ به الحيلُ
أنت المُنادى به في كلِّ حادثةٍ *** أنت الإلهُ وأنت الذخرُ والأملُ
أنت الغياثُ لمن سُدَّت مذاهبُهُ *** أنت الدليلُ لمن ضَلَّتْ به السبلُ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى