محبة النبي صلى الله عليه وسلم
محبة النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله…
كان الناس في الجاهلية يعيشون في ضلالة عمياء وجهالة جهلاء حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة ونعمة مسداة، فأخرج اللهُ به الناسَ من الظلمات إلى النور، وفتح اللهُ به قلوبًا غلفًا وآذانًا صمًا وأعينًا عميًا.: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة , وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران:164]
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه, فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة , فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”([1])
.
بزغ الصباحُ بنور وجهـك بعدما *** غشــت البريةَ ظلمــةٌ سوداءُ
فتفتقت بالنور أركانُ الدجى *** وسعىعلى الكون الفسيحِ ضياءُ
أيها الإخوة:
إن هذا النبي الكريمَ صلى الله عليه وسلم له علينا حقوقٌ كثيرة منها: الصدقُ في محبته، وتربيةُ النفس والولد والأهل على ذلك، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تعني أن يميل قلبُ المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ميلًا يتجلى فيه إيثاره صلى الله عليه وسلم على كل محبوب من نفس ووالد وولد، لما خصه الله من كريم الخصال وعظيم الشمائل، وما أجراه الله على يديه من صنوف الخير والبركات.
وهذه المحبة تابعةٌ لمحبة الله تعالى لازمة لها, وتليها في المرتبة فلا تنفك إحدى المحبتين عن الأخرى , فمن أحب اللهَ تعالى أحب رسولَه صلى الله عليه وسلم, قال عز وجل: {قل إن كنتم تحبون
الله فاتبعوني يحببكم الله
} {آل عمران: 31].
إن محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الإيمان، وهي – من حيث حكمها – على مرتبتين:
الأولى: فرض، وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم،وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر به من الواجبات، واجتناب ما نهى عنه وزجر من المحرمات، ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة.
المرتبة الثانية: فضل ونفل وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به وتحقيق الاقتداء بسنته في أخلاقه وآدابه وهديه وشمائله، واهتزاز القلب من محبته وتعظيمه وتوقيره ومحبة استماع كلامه.
قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب:6] فهذه الآية إخبارٌ عن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين، كما أنها إخبار عن الحال التي ينبغي أن يكون فيها المؤمنون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أولى بهم من أنفسهم ولا يكون كذلك حتى يكون أحب إليهم من أنفسهم, واستدل بعض أهل العلم بهذه الآية على أن من لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسه فليس من المؤمنين.
ومما يبين وجوب محبته صلى الله عليه وسلم آيةُ المحبوبات الثمانية؛ وهي قوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}[التوبة:24].
ومن أجلى الأدلة على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الشيخان عن أنس tقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”([2])
يعني: لا يؤمن تمام الإيمان. هذا حديث سمعناه كثيرا، ويمر علينا مرورًا عابرًا لكنهليس كذلك مع رجل من أمثال عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال: يا رسول الله ؛ لأنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا من نفسي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك“, فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: “الآن يا عمر” ([3]).
فإذا قويت المحبة في قلب المؤمن وزادت أثمر ذلك زيادةَ الإيمان وذاق العبدُ حينذاك حلاوةَ الإيمان كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما…” الحديث([4])
وأما عاقبة هذه المحبة فما أحمدها من عاقبة! أن تكون معه صلى الله عليه وسلم.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ فقال: “وماذا أعددت لها؟” قال الرجل: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: “أنت مع من أحببت” ([5])
.
إن قلب المؤمن يمتلئ حبا لرسوله صلى الله عليه وسلملأن محبته تابعةٌ لمحبة الله عز وجل، ولأنه خليل الله ومصطفاه من بين خلقه، واصطفاه ربه بالرسالة وإنزالِ القرآن, وشرح له صدرَه ووضع عنه وزرَهُ ورفع ذكرَهُ، وكرمه بالصلاة عليه وملائكتُه، وأمر المؤمنين بذلك: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}[الأحزاب:56]، وجعله رحمة للعالمين، وشرفه يوم القيامة بالمقام المحمود والشفاعة العظمى من بين سائر الأنبياء والمرسلين. مع ما جبله الله عليه من كريم الخصال وعظيم الأخلاق التي تميز بها عن سائر الخلق أجمعين. قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}[القلم:4].
وهو جدير بقول القائل:
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
فمثلك لم تر قط عيني ومثلك قط لم تلد النساء
أيها الأخوة في الله:
إن كثيرًا من الناس يدعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الدعاوى تحتاج إلى بينات صادقات, ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لها علامات ومظاهر تدل على صدق مدعيها، فمن ذلك:
1- طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه. وقد قيل: إن المحب لمن يحب مطيع، ومقتضى ذلك: التمسك بسنته والحرص عليها تعلما وعملا.امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)([6]).
2- تعظيمُه وتوقيرُه والأدبُ معه. كما كان الصحابة وسلف هذه الأمة على قدر كبير من هذا. فقد قال عروة بن مسعود لقريش: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ
وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ([7]).
وسئل علي رضي الله عنه: (كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ)([8]).
وعن أنس بن مالك قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة وقالوا: قتل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة فاستقبلت بأبيها وابنها زوجها وأخيها– أي أخبرت بموتهم جميعا – لا أدري أيهم استقبلت به أولًا، فلما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك،وهي تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم،وهم يقولون: أمامك، حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب([9])
.
قال إسحاق التجيبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا. وقال مصعب بن عبد الله: كان الإمام مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه.
ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرِه والثناءِ عليه:كثرةُ الصلاة والسلام عليه، لا سيما في يوم الجمعة, لقوله صلى الله عليه وسلم: “أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة”([10]). وصلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى. وقال عليه الصلاة والسلام: “من صلى علي حين يصبح عشرًا وحين يمسي عشرًا, أدركته شفاعتي يوم القيامة” ([11])
3- ومن علامات محبته: نصر سنته والذب عن شريعته.
4- ومن علاماتها: الحرص على رؤيته وكثرة تذكره وتمني رؤيته والشوق إلى لقائه لأن من أحب شيئًا أكثر من ذكره وقد قال صلى الله عليه وسلم: “من أشد أمتي لي حبًا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله” ([12])
ولما احتضر بلال رضي الله عنه نادت امرأته: واويلاه, وهو يقول: وافرحاه غدًا نلقى الأحبة محمدا وحزبه. أيها المسلم: هل اشتقت يوما للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أن تجالسه وتكون معه؟
أيها الإخوة:
بل حتى الجمادات كانت تحن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج خ عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: “إن شئتم، فجعلوا له منبرًا”, فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمه إليه يئن أنين
الصبي الذي يسكن([13])
وكَانَ الْحَسَنُ إِذَا حدَّث بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى ثُمَّ قَالَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَوْقًا إِلَيْهِ لِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ ـ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إلى لقائه([13]).
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
5- من علاماتها:
محبة سنته ومحبة الداعين إليها والمتمسكين بها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما منكرًا على أصحابه: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
وكان الإمام أحمد يقول: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}[النور:63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
ومع هذا وبعد هذا فهو بشر لا يجوز الغلو فيه أو رفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها. {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهاكم إله واحد} [الكهف:110] ففضل بالوحي والرسالة.
محمد بشرٌ وليس كالبشر محمد ياقوتةٌ والناس كالحجر
وجاء عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله”([15]). وقد نتج عن الغلو في محبته صلى الله عليه وسلم عند بعض الناس الوقوع في بعض البدع كالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم والاحتفال بمولده, واتخاذ قبره عيدًا وغير ذلك.
فالمطلوب أيها الناس التوسط والاعتدال لا إفراط ولا تفريط , فأحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالص قلوبكم وحققوا متابعته وطاعته، وتمسكوا بسنته ترشدوا وتفلحوا في الدنيا والآخرة، واعلموا أن الناس في هذا الباب ثلاثةُ أقسام؛ طرفان ووسط: قسم جفا وأعرض، وقسم غلا وجاوز، وقسم توسط وأصاب.
اللهم ارزقنا حبك وحب نبيك صلى الله عليه وسلم وحب عبادك الصالحين, الله حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم…
.
.
.
([1]) رواه البخاري: (3535), ومسلم: (2286) واللفظ له.
([2]) رواه البخاري: (15), ومسلم: (44).
([3]) رواه البخاري: (6632).
([4]) رواه البخاري: (16), ومسلم: (43).
([5]) رواه البخاري: (6171).
([6]) رواه أبو داود: (4607), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2549).
([7]) رواه البخاري: (2731) في حديث طويل.
([8]) الشفا, للقاضي عياض: (2 / 22).
([9]) رواه الطبراني في الأوسط: (7499).
([10]) رواه البيهقي
في الكبرى: (5994), وصححه الألباني, الصحيحة: (1407), وقال:( حسن على أقل الدرجات، وهو صحيح بدون ذكر ليلة الجمعة).
([11]) رواه الطبراني, ينظر: مجمع الزوائد: (17022), وحسنه الألباني في صحيح الجامع, : (6357),
([12]) رواه مسلم: (2832).
([13]) رواه البخاري: (3584).
([14]) رواه ابن حبان: (6473), ورواه ابن الجعد في مسنده: (3219) بلفظ: أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَيْهِ.
([15]) رواه البخاري: (3445).