الآداب الشرعيةخطب الجمعةخطب نصية

آداب النوم [1]

إن الحمد لله .. اتقوا الله ..

عباد الله .. إن لله آياتٍ باهرات، وعظاتٍ شاهدات، في الأنفس والآفاق من الأرض والسماوات، وقد حث الله تعالى عباده على النظر في هذه الآيات النفسية والأفقية والتفكر والتأمل لأخذ العظة والعبرة، وذم الغفلةَ والإعراض عنها }سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ {[فصلت: 53].

أيها الإخوة .. دعونا نتأمل سويا في آية من آيات النفس، ونتبصرُ فيها }وفي أنفسكم أفلا تبصرون{ [الذاريات :21], آيةٌ عجيبة قلَّ من يقفُ عندها لتكررها، ألا وهي: النوم.

نعم .. النوم آيةٌ من آيات الله بنص القرآن، قال الله تعالى: }مِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {[الروم: 23], فهي آيةٌ من آيات الله، ودليلٌ من دلائل قدرته أن جعل الله النومَ راحةً لنا في الليل والنهار. وهذا النوم يقتطع جزءا كبيرا من عمر الإنسان، والغالب من ينام ثمانِ ساعات في اليوم والليلة، فمن كان عمره خمسا وأربعين سنة فقد قضى قرابة خمس عشرة سنة من عمره نائما.

من العبر في النوم: أنه وفاة صغرى، قال تعالى }اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {[الزمر:  42], دلت الآية على أن الوفاة قسمان: وفاة كبرى، وهي وفاة الموت بانقضاء الأجل، }وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا{, أي ويقبض التي لم تمت في منامها، وهذه الموتة الصغرى، }فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى{. أي فيحبس من هاتين النفسين النفسَ التي قضى عليها الموت، وهي نفس مَن مات، ويرسل النفس الأخرى إلى استكمال أجلها ورزقها، وذلك بإعادتها إلى جسم صاحبها.

وقال تعالى: }وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ{ [الانعام: 60], وهذه الوفاة الصغرى.

وأنت حين ترى جماعةً نائمين في غرفة مثلا؛ تراهم جثثا ساكنة لا حراك فيها كالأموات.

ومن عبر النوم: التذكيرُ بالبعث بعد الموت، وأن الله يحيي الأجسادَ بعد موتها، فإن القادرَ على رد الروح حين يصحو الإنسانُ ويستيقظ بعد أن قبضت في النوم؛ قادرٌ على أن يبعث الأموات من قبورهم، وهو على كل شيء قدير.

النوم راحةٌ للبدن وسكون، ليتجدد النشاطُ للعمل والسعي في الأرض،}وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}، }اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ {[غافر: 61], إن هذه النعمة لا يعرفها إلا من سُلبها وعاش معاناةَ الأرق، وأمسى لا ينام إلا بالحبوب والمهدئات.

فكم لله علينا من نعمة في هذا النوم، نتقلب على هذه الفرش الوثيرة، ونغط في نوم عميق في الليل والنهار، في غرفٍ باردةٍ في الصيف، دافئة في الشتاء، في أمن وعافية ورغد من العيش.

أيها الإخوة .. لما كان النوم بهذه المكانة، ويأخذ هذا القدرَ من العمر، فقد جاءت الشريعة فيه بآداب وتوجيهات وتحذيرات لمصلحة العبد في دنياه وأخراه، لعلنا نُذكِّر بها في هذا المقام، فمن ذلك:

استحضار النية الصالحة بالنوم، بأن ينوي التقوي به على الطاعة والخير، وإعطاء البدن الذي اؤتمن عليه حقَّه من الراحة والسكون. قال معاذ
[رضي الله عنه]: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. وقال أبو الدرداء [رضي الله
عنه]: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم. فهنيئا لمن كانت يقظته ومنامه لله، وتعلق قلبُه وفكرُه بمولاه، }قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ [الانعام: 162].

التبكير في النوم، فعن أبي برزة [رضي الله عنه] أن رسول الله [صلى الله عليه
وسلم] كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها ([1])، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما نام رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] قبل العشاء ولا سمر بعدها. ([2])، والسمر هو الحديث بالليل.

وذكر العلماء أن سبب كراهة السمر بعد العشاء لأنه قد يؤدي إلى النوم عن صلاة الصبح، أو عن وقتها المختار، أو عن قيام الليل. وكان عمر بن الخطاب
[رضي الله عنه] يضرب الناس على ذلك ويقول: (أسمرًا أول الليل ونومًا في آخره)؟ ([3]).

هذا إذا كان السمر على مباح فأما إن كان على محرم فالأمر أشد، ولا يدخل في الكراهة الحديثُ بعد العشاء في أمر المسلمين، أو مع الأهل أو الضيف أو في العلم، لحديث عمر بن الخطاب
[رضي الله عنه] قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين وأنا معهما ([4]).

أخذ الأسباب الوقائية للسلامة قبل النوم، مثل إطفاء النار، وإغلاق الأبواب، وإطفاء المصابيح، وتغطية الأواني المكشوفة، وكل هذا جاءت به السنة الصحيحة.

عَنْ جَابِرٍ [رضي الله عنه] أَنَّ رَسُولَ الله [صلى الله عليه وسلم] قَال: (أَطْفِئُوا المَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأبْوَابَ، وَأَوْكُوا الأسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ – وَأَحْسِبُهُ قَالَ – وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ)([5]).

وقوله (وَأَوْكُوا الأسْقِيَةَ) أي اربطوها وشدوها، والأسقية ما يوضع فيه الشراب، كالقربة ونحوها. وقوله: (وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ)؛ التخمير هو التغطية، وذلك صيانة لهذه الأطعمة والأشربة من الشيطان فإنه لا يكشف غطاء، ومن الوباء، ومن الحشرات والهوام والمستقذرات.

وعن جابر [رضي الله عنه] عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (إذا استجنح الليل – أي أقبل بظلمته – فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعةٌ من العشاء فخلوهم، وأغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئا) ([6]).

وعَنْ أَبِي مُوسَى [رضي الله عنه] قَال: احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمْ النَّبِيُّ
[صلى الله عليه وسلم] فقَال: (إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ)([7]).

ويلحق بذلك تفقد مواضع الخطر الأخرى قبل النوم لأجل السلامة مثل تسربات الغاز، وتفقد التوصيلات والأجهزة الكهربائية وشاحن الجوال التي قد يضر بقاؤها وقت النوم.

ومن ذلك: غسل اليد بعد الدسم والزهومة من اللحم ونحوه، لحديث أبي هريرة [رضي
الله عنه] أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (من نام و في يده غَمَرٌ ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه)([8]).

والغَمَرُ – بِفَتْحَتَيْنِ – أَيْ دَسَمٌ وَوَسَخٌ وَزُهُومَة مِنْ اللَّحْم.

قال العلماء: لأن ترك ذلك في النوم سبب لجذب الهوام وَذَوَات السَّمُوم التي تَقْصِدهُ فِي الْمَنَام لِرَائِحَةِ الطَّعَام فِي يَده فَتُؤْذِيه، وقيل: لأن ذلك قد يسبب البرص في البدن.

ومن أسباب الوقاية: اجتناب النوم في سطح مكشوف غير محجر، لحديث عَلِيٍّ بن شَيْبَانَ
[رضي الله عنه] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صلى الله عليه وسلم]: (مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ – وفي لفظ: حجاب -، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ)([9])، وذلك لأن النائم قد ينقلب في نومه، وقد يمشي وهو لا يشعر، فلذا جاء هذا الوعيد الشديد فيمن تهاون بنفسه، وذلك حمايةً وصيانة للنفس.

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

الوضوء قبل النوم، ولو كان على جنابة.

عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ [رضي الله عنه] قَالَ النَّبِيُّ [صلى الله عليه
وسلم]: (إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ)([10]),

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [رضي الله عنه] سَأَلَ رَسُولَ الله
[صلى الله عليه وسلم]: أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ)([11]).

ومن فضائل هذا العمل: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله [صلى الله
عليه وسلم]: (من بات طاهرا بات في شعاره ملك، فلا يستيقظ إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهرا) ([12]), وعن معاذ بن جبل
[رضي الله عنه] عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (ما من مسلم يبيت على ذكر طاهرا فيتعار من الليل – أي يستيقظ- فيسأل الله خيرا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه) ([13]).

إن العبد حين يريد النوم فهو مقبل على وفاة تُقبضُ فيها روحُه، فما أجمل أن يكون على طهارة، وأولى من ذلك أن يطهر باطنه لهذه الوفاة بالتوبة والاستغفار مما حصل منه من تفريط وتقصير في حق الله عليه. وذكر بعض العلماء أن الوضوء عند النوم أصدقُ للرؤيا وأبعد من تلاعب الشيطان.

نفض الفراش ثلاثا مع التسمية.

لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ [رضي الله عنه] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ [صلى الله عليه
وسلم] قَالَ: (إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، وَلْيُسَمِّ اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ) ([14])، وفي لفظ للبخاري قال: (إذا جاء أحدكم فراشه فلينفضه بصنفة ثوبه – أي طرفه وجانبه – ثلاث مرات ..)([15]).

و(دَاخِلَة الْإِزَار) طَرَفه, وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَنْفُضَ فِرَاشَه قَبْل أَنْ يَدْخُل فِيهِ, لِئَلَّا يَكُون فِيهِ شيء مِنْ الْمُؤْذِيَات كعقرب ونحوها, وَلْيَنْفُضْ وَيَدُهُ مَسْتُورَة بِطَرَفِ إِزَاره, لِئَلَّا يَحْصُل فِي يَده مَكْرُوه إِنْ كَانَ هُنَاكَ.

وخلاصة هذا الأدب: أنه يستحب نفض الفراش قبل النوم، وأن النفض يكون ثلاثا، ويسمي عند النفض، وهذه سنةٌ قلَّ من يعمل بها، والحكمة في ذلك بينها رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] بقوله: (فإن أحدكم لا يدري ما خلفه عليه).

اللهم ..

 

([1]) رواه البخاري: (547), ومسلم: (647).

([2]) رواه ابن ماجه: (702), وأحمد: (26280), وصححه الألباني في صحيح وضعيف ابن ماجه.

([3]) الفتح: (2/73).

([4]) رواه الترمذي: (169), وأحمد: (178). ينظر: السلسلة الصحيحة (3025).

فائدة: قال في تحفة الأحوذي (169): “وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنْ تُحْمَلَ أَحَادِيثُ الْمَنْعِ عَلَى السَّمَرِ الَّذِي لَا يَكُونُ لِحَاجَةٍ دِينِيَّةٍ وَلَا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْحَوَائِجِ, وَقَدْ بَوَّبَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابٌ السَّمَرُ فِي الْعِلْمِ)، قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: نَبَّهَ عَلَى أَنَّ السَّمَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ؛ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَكُونُ مِنْ الْخَيْرِ، وَأَمَّا السَّمَرُ بِالْخَيْرِ فَلَيْسَ بِمَنْهِيٍّ، بَلْ هُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ. انْتَهَى. قُلْتُ: هَذَا الْجَمْعُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ”.

([5]) رواه البخاري: (5624), ومسلم: (2012).

([6]) رواه البخاري: (3280), ومسلم: (2012).

([7]) رواه البخاري: (6294), ومسلم: (2016).

([8]) رواه أبو داود: (3852), والترمذي: (1967), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (6564). وله ألفاظ أخرى.

([9]) رواه أبو داود (5041), والبخاري في “الأدب المفرد” (1192), وصححه الألباني في صحيح الجامع (6113).

([10]) رواه البخاري: (247), ومسلم: (2710).

([11]) رواه البخاري: (287).

([12]) رواه ابن حبان: (1051), وحسنه الألباني في الصحيحة: (2539). وضعفه الحويني في: (الفتاوى الحديثية 1/ 447 الشاملة).

([13]) رواه أبو داود: (5042), وأحمد: (22048), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (5754).

([14]) رواه مسلم: (2714).

([15]) رواه البخاري: (7393).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى