خطب نصية

منكرات الأفراح [1]

 

إن الحمد لله .. اتقوا الله .. أما بعد

عباد الله .. الزواجُ سنةٌ من سنن الله في خلقه ، وفطرةٌ فطرَ اللهُ الخلقَ عليها، فيه الأنسُ والسكن، وبه تحصل المودةُ والرحمة، والراحةُ والطمأنينة والاستقرارُ النفسي، وهو آيةٌ من آيات الله. قال تعالى: }ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون {[الروم : 21].

ومع سمو هذه الرابطة؛ إلا أن بعض الناس في هذا الزمان أبوا إلا أن يجعلوا من الزواج هالة عظيمة، وعبئاً ثقيلاً، وشبحا مخيفا ينفر منه الشباب. فإذا قفزت إلى ذهن الشاب فكرةُ الزواج قامت أمامه سدودٌ منيعة بدءا من المهور الباهظة، ثم كلفة تأثيثِ البيت وتزيينه بما يجاري نظر الناس، ثم حفلة الزواج وتبعاتها، ثم شهر العسل والسفر للخارج، ثم .. وثم .. وثم .. في كماليات وشكليات وتكلفات.

ومع قدوم الصيف وقرب الإجازة تكثر حفلاتُ الزواج والحمد لله، ففي كل حفلة تولد أسرة جديدة في هذا المجتمع، ترتبط على معنى الطهر، وتلتقي على ساحة الفضيلة.

لكن هذه الحفلات شابها بعضُ المكدرات، التي كدرتْ صفوها وحلاوتها، ولعل من المناسب أن نتحدث عن هذه المكدرات والمخالفات التي احتفت بتلك الحفلات:

الإسراف:

وهذا أبرز منكرات الأفراح، بذخٌ وتكلف، لهوٌ وزينة، وتفاخر وتكاثر، حتى شق النكاحُ على كثير من الشباب لكلفته وتبعاته، فأحجموا عنه مع حاجتهم له، وتبع ذلك تأخرُ الفتيات وتقدمهن في السن دون زواج، وإذا تأخر الشباب من الجنسين عن الزواج نجم عن ذلك أضرارٌ على الأفراد والمجتمع.

والأمر أيسر وأهون لو يسرنا الأمور، ولكنه التعقيد والتكلف والمباهاة، تقليد الدهماء وطاعة السفهاء. مهور طائلة، وهدايا مكلفة للمخطوبة وأقاربها من الساعات والمجوهرات، ومباهاةٌ وبذخ في إقامة الحفلات، والتكثرُ من المدعوين والمدعوات، واستئجار القصور والقاعات، وإسراف في الولائم والمأكولات والمشروبات.  

عباد الله .. تكرر في القرآن ذمُّ الإسرافِ والمسرفين، والتبذيرِ والمبذرين، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الإنعام: 141].، {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [ الإسراء: 26]..

وعن عقبة بن عامر [رضي الله عنه] قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: (خير النكاح أيسرُه)([1]).

وعن عروة عن عائشة أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (إن من يُمنِ المرأة تيسيرَ خطبتها، وتيسيرَ صداقها، وتيسير رحمها)، قال عروة: “يعني تيسير رحمها للولادة”. قال عروة: “وأنا أقول: من أول شؤمها أن يكثر صداقها” ([2]).

وخطب عمر [رضي الله عنه] فقال: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى عند الله؛ لكان أولاكم بها رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]، ما أصدقَ قطُّ امرأةً من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية)([3]).

وشُرع في ديننا الحنيف إعلانُ النكاح وإظهارُه ليكون فيصلا بين النكاح والسفاح، كما قال
[صلى الله عليه وسلم]: (أعلنوا النكاح)([4])، ومن صور إعلانه: عمل وليمة لهذا العرس، فهذه سنة ثابتة، كما قال
[صلى الله عليه وسلم] لعبد الرحمن بن عوف [رضي الله عنه]: (أولم ولو بشاة)([5]).

وكلما كانت نفقاتُ العرس أقلَّ كان أكثرَ بركةً للزوجين، وأدعى لبقاء الألفة والمودة بينهما.

وجاء في بيان مجلس هيئة كبار العلماء في دورته العاشرة – المعقودة في 4/4/1397 هـ -: “يرى المجلس بالأكثرية معاقبةَ من أسرف في ولائم الأعراس إسرافاً بيناً، وأن يحال بواسطة أهل الحسبة إلى المحاكم لتعزير من يثبتُ مجاوزتُه الحد بما يراه الحاكم الشرعي من عقوبة رادعةٍ زاجرة تكبح جماحَ الناس عن هذا الميدان المخيف؛ لأن من الناس من لا يمتنع إلا بعقوبة، .. ويرى المجلس أن من أنجح الوسائل في القضاء على السرف والإسراف أن يبدأ بذلك قادة الناس من الأمراء والعلماء وغيرهم من وجهاء الناس وأعيانهم، وما لم يمتنع هؤلاء من الإسراف وإظهار البذخ والتبذير فإن عامة الناس لا يمتنعون من ذلك لأنهم تبع لرؤسائهم وأعيان مجتمعهم”([6]).

أيها الإخوة .. إن مما يتفطر له القلب، وتتقرح منه الكبد أن نشهد حفلات زواجٍ ينفقُ عليها أموالٌ طائلة وآلافٌ مؤلفة في حين يتساقط المئات من المسلمين جوعا في بعض جهات أفريقيا لا يجدون ما يسد جوعتهم، فيظل أحدهم يتلوى حتى يسقط من الإعياء، وخرج بعض النساء بحثا عن ورق الشجر يطبخنه لأولادهن، ونحن هنا نعبث بالنعمة، ونسرف في هذه الحفلات. }ثم لتسألن يومئذ عن النعيم {[التكاثر: 8]..

ودعونا أيها الأحبة نلقي نظرة على أعراس النبي [صلى الله عليه وسلم]، وكيف كانت الوليمة فيها؟.

عن صفية بنت شيبة رضي الله عنها قالت: (أولمَ النبيُّ [صلى الله عليه وسلم] على بعض نسائه بمدين من شعير)([7])، والمدان نصف صاع، فهذه وليمة عرسه
[صلى الله عليه وسلم].

وأما وليمته على صفية رضي الله عنها؛ فأخبر بها أنسٌ [رضي الله عنه] قال: (أقام النبي
[صلى الله عليه وسلم] بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى عليه بصفية فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع فبسطت – والنطع بساط من جلد – فألقى عليها التمر والأقط والسمن)([8]).  

وأما وليمته في زواجه بزينب بنت جحش فأخبر بها أنس [رضي الله عنه] أيضا، قال: (ما أولم رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة)([9])، هذه أكبر وليمة عملها رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] في زواجه، شاة ذبحها في وليمة عرسه [صلى الله عليه وسلم].

 

 

مخالفات اللباس والزينة عند النساء:

وهذه من آفات حفلات الزواج، فظهر انحرافٌ عند كثير من النساء في هذا الباب، من جهتين:

الأولى: في الإسراف والمبالغة في تجهيز اللباس والزينة، حيث تنفق المرأة مالا كثيرا في شراء الثياب وتفصيلها، وما يناسب لها من الأحذية والإكسسورات، وتُكلِّفُ المرأةُ زوجَها أو أباها نفقة كثيرة ربما ترهقه وتشق عليه، فإن كان لها بنات تضاعف الأمرُ عليه. وفي الحديث عنه
[صلى الله عليه وسلم] قال: (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة)([10]).

الثانية: في مخالفة الستر والحشمة، حيث برزت بين نساء المسلمين ألبسةٌ غريبة، وتجاوزات مخيفة، في غفلة من الولي، فتجرأ البعض على ألبسة تظهر أكثرَ مما تستر، أو ألبسةٍ ضيقة تحدد مقاطع الجسم وتفاصيله، أو ألبسةٍ رقيقة شفافة تصف ما وراءها، في صور مؤسفة لا تتماشى مع حياء المرأة المسلمة وحشمتها، حتى أحجم بعض الصالحات عن حضور الأعراس بسبب هذا.

إن هذا الانحراف في اللباس الذي صار ظاهـرة في أوساط النساء – وبوجه أخص في حفلات الأعراس- ما كان إلا بسبب تساهل الأزواج مع زوجاتهم، والآباء مع بناتهم، وإلا لو علمت الزوجةُ أو البنتُ أو الأختُ أن وليها سيغضب إن لم تحافظ على سترها وحشمتها لما فعلت فعلتها، ولو أنها أدركت أنها مراقبةٌ في لبسها، وستعاقب عليه، وتمنع من الذهاب به، لما لبست ما تشاء. وحياء المرأة يزول شيئًا فشيئًا، فإذا لم يجد من محارمها الرجال من يصونُه ويحفظه زال بالكلية حتى تصير بلا حياء في قولها وفعلها، ولباسها وحركاتها.

في الحديث عن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: (صنفان من أهل النار لم أرهما: – وذكر منهما-: نساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهم كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا)([11]).

ومن أسباب هذا الانحراف في اللباس المنافي للحياء والحشمة: الانفتاح الإعلامي، حيث ترى الفتاة الصغيرة، والشابة والمرأةُ، صورَ النساء في القنوات، ممثلاتٍ أو مغنيات أو مقدمات بلباس فاضح، فتتأثر المرأة بحكم طبيعتها وسرعة تأثرها، وتميل إلى تقليدهن شيئا فشيئا. والله المستعان

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

 الحمد لله ..

يتعذر بعض النساء ممن يقع في مثل هذه المخالفات: أن هذا اللباس إنما يكون بين النساء فقط، وجاء في جواب للجنة الدائمة للإفتاء حول هذا الموضوع: “كان نساء المؤمنين في صدر الإسلام قد بلغن الغاية في الطهر والعفاف والحياء والحشمة ببركة الإيمان بالله ورسوله، واتباع القرآن والسنة، وكانت النساء في ذلك العهد يلبسن الثياب الساترة ، ولا يعرف عنهن التكشف، والتبذل عند اجتماعهن ببعضهن أو بمحارمهن ، وعلى هذه السنة القويمة جرى عمل نساء الأمة – ولله الحمد – قرناً بعد قرن إلى عهد قريب، فدخل في كثير من النساء ما دخل من فساد في اللباس والأخلاق لأسباب عديدة . ونظراً لكثرة الاستفتاءات الواردة إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن نظر المرأة إلى المرأة ، وما يلزمها من اللباس، فإن اللجنة تبين لعموم نساء المسلمين أنه يجب على المرأة أن تتخلق بخلق الحياء، الذي جعله النبي
[صلى الله عليه وسلم] من الإيمان وشُعبة من شُعبه، ومن الحياء المأمور به شرعاً وعرفاً: تستر المرأة واحتشامها وتخلقها بالأخلاق التي تبعدها عن مواقع الفتنة ومواضع الريبة .

وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها ، مما جرت العادة بكشفه في البيت، وحال المهنة (يعني الخدمة في البيت)، كما قال تعالى: }وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ{ [النور: 31].

وإذا كان هذا هو نص القرآن وهو ما دلت عليه السنة ، فإنه هو الذي جرى عليه عمل نساء الرسول
[صلى الله عليه وسلم] ونساء الصحابة ، ومن اتبعهن بإحسان من نساء الأمة إلى عصرنا هذا ، وما جرت العادة بكشفه للمذكورين في الآية هو ما يظهر من المرأة غالباً في البيت ، وحال المهنة، ويشق عليها التحرز منه، كانكشاف الرأس واليدين والعنق والقدمين ، وأما التوسع في التكشف فعلاوة على أنه لم يدل على جوازه دليل من كتاب أو سنة– هو أيضاً طريق لفتنة المرأة والافتتان بها من بنات جنسها ، وهذا موجود بينهن ، وفيه أيضاً قدوة سيئة لغيرهن من النساء، كما أن في ذلك تشبهاً بالكافرات والبغايا والماجنات في لباسهن، وقد ثبت عن النبي
[صلى الله عليه وسلم] أنه قال : (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)([12])…”([13]).    

اللهم ..

 

([1]) رواه أبو داود (2117), وصححه الألباني في صحيح الجامع (3300). عن عقبة بن عامر
[رضي الله عنه] .

([2]) رواه أحمد: (24478), والبيهقي في الكبرى (14357), والطبراني في “الأوسط” (3637)، وفي “الصغير” (469), وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2235). وزاد الطبراني قول عروة، وحسنه الألباني في الإرواء (6/350).

([3]) رواه أبو داود (2106), والترمذي (1114), وصححه الألباني في المشكاة: (3204).

([4]) رواه أحمد: (16130) وابن حبان: (4066), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (1072). عن ابن الزبير رضي الله عنهما.

([5]) رواه البخاري: (2048), ومسلم: (1427).

([6]) أبحاث هيئة كبار العلماء: (2/ 491).

([7]) رواه البخاري: (5172).

([8]) رواه البخاري, واللفظ له: (4213), ومسلم: (1365).

([9]) رواه البخاري: (5168), ومسلم: (1428).

([10]) رواه البخاري تعليقا (7/140), ورواه موصولا النسائي (2559), وأحمد (6695), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (4505). عن ابن عمرو رضي الله عنهما .

([11]) رواه مسلم (2128).

([12]) رواه أبو داود: (4031), وأحمد: (5115), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (6149). عن ابن عمر رضي الله عنهما. وجاء عن غيره.

([13]) فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى-: (17/ 291).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى