ملكة الاستشهاد واستحضار الآيات (وقفة وحكاية)
يعد الاستحضار والانتزاع من القرآن في موضوع ما ؛ ملكة قلّ من يتقنها حتى من حفاظ القرآن ، وقد رأينا بعض المشايخ تميز بهذه الصفة ، ومنهم سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله وغيره وهم قليل ، ولو أردت أن أضرب مثالا يكون كالاختبار لأحدنا، وقلت:
– اذكر الآيات الواردة في الأمر بتوحيد العبادة .
– اذكر الآيات الواردة في الجبال – مثلا –
فلينظر كل واحد منا قدر الآيات التي استحضرها دون مراجعة أو بحث أو طول وقت ، بل تأتيه بديهة قريبة المأخذ ، بحيث يستطيع إيرادها لو كان يرتجل خطبة أو كلمة في ذلك الموضوع ، ثم يقوّم نفسه في هذا الأمر .
ومن الأمور التي تفيد في تحصيل هذه الملكة :
1. إتقان حفظ القرآن ، فالحفاظ اليوم كثير ، ولكن أين منهم المتقنون ؟
ويعجبني في هذا ما أخرجه الخطيب في ( الجامع ) عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال :”الحفظ الإتقان”.
2. التدريب العلمي ، وذلك بمراجعة الآيات في كل موضوع يطرقه أحدنا في درس أو كلمة أو خطبة ، ويستودع ذلك مخزن صدره وسويداء قلبه .
وأنصح في هذا الباب ابتداء بكتاب ( رياض الصالحين ) فإنه جمع أصول أبواب العلم والدين ومهمها ، وطريقته أنه يصدر كل باب ببعض الآيات فيه ، فليعتن بذلك طالب العلم ويمرن نفسه بمراجعته كثيرا ، ثم ينتقل إلى معاجم الموضوعات القرآنية .
3. التدريب العملي ، وذلك بالممارسة والتطبيق فيما يلقيه من درس أو كلمة أو خطبة أو غيرها ، ويحرص على حشد الآيات وإيرادها أثناء تناوله للموضوع الذي يتحدث عنه ، ومراجعة ذلك وتسديده مرة بعد أخرى .
ومن عجيب ما وقفت عليه في هذا الباب ماحكاه الماوردي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول : سمعت أبي يقول سألت الحسين بن الفضل فقلت: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن فهل تجد في كتاب الله:(خير الأمور أوساطها)؟، قال : نعم ، في أربعة مواضع قوله تعالى: (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ) وقوله تعالى :(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) وقوله تعالى :
(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) وقوله تعالى:(ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا).
قلت: فهل تجد في كتاب الله: (من جهل شيئا عاداه) ؟ قال : نعم في موضعين ، ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم).
قلت: فهل تجد في كتاب الله: (احذر شر من أحسنت إليه)؟، قال : نعم ،(وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله).
قلت: فهل تجد في كتاب الله: (ليس الخبر كالعيان)؟، قال : في قوله تعالى(قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).
قلت: فهل تجد في كتاب الله: (في الحركات البركات)؟ قال : في قوله تعالى :(ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة).
قلت: فهل تجد في كتاب الله: (كما تدين تدان)؟، قال : في قوله تعالى(من يعمل سوءا يجز به).
قلت: فهل تجد فيه قولهم: (حين تقلي تدري)؟ قال :(وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا).
قلت: فهل تجد فيه: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)؟، قال :(هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل).
قلت: فهل تجد فيه: (من أعان ظالما سلط عليه)؟، قال :(كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير).
قلت: فهل تجد فيه قولهم: (لا تلد الحية إلا حية)؟، قال : قوله تعالى( ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا).
قلت: فهل تجد فيه: (للحيطان آذان)؟، قال :(وفيكم سماعون لهم).
قلت: فهل تجد فيه: (الجاهل مرزوق والعالم محروم)؟، قال :(من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا).
قلت: فهل تجد فيه: (الحلال لا يأتيك إلا قوتا والحرام لا يأتيك إلا جزافا)؟، قال :(إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم).
هذه خاطرة عجلى حول هذا الموضوع ، وهو يحتمل المزيد .
والله أعلم