آداب الرحلات والنزهات
إن الحمد لله .. اتقوا الله ..
عباد الله .. يترقب الطلاب والطالبات، والمعلمون والمعلمات هذه الأيام نهاية الامتحانات وبداية إجازة منتصف الفصلين، وقد عزم الكثير على قضائها في نزهة داخلية أو رحلة برية، لا سيما بعد اعتدال الجو، وفي هذه الرحلات فوائد كثيرة، منها:
التَّرويح عن النفس ودفع الملل والسَّآمة، وتخفيف ضغوط الحياة وهموم المعيشة، فإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا.
حسن العشرة مع الأهل وإدخال السرور عليهم، وقد قال النبي [صلى الله عليه وسلم] (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)([1]). وكان
[صلى الله عليه وسلم] إذا هويت امرأتُه شيئاً لا محذورَ فيه تابعها عليه، وكان من لطفه وحسن خُلُقه مع أهله أنه يمكِّن عائشة من اللعب، ويريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده، وهي متكئة على منكبيه تنظر، وسابقها في السفر على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة ([2]).
توثيق روابط المحبة والألفة بين أفراد العائلة، وقرب الأب من أولاده بحيث يزيد من معرفته لأولاده، فإن الأبناء ينمون سريعا، ويتغيرون مع هذا النمو من جهة تفكيرهم وشخصيتهم واهتمامهم، مما لا يظهر إلا في مثل هذه الرحلات، وكذا فهي تزيد من محبة الأبناء لأبيهم لأنهم يرونه معهم حاضرا مشاركا متبسطا معهم.
اكتساب خبرات ومهارات جديدة تفيد الإنسان في حياته العامة مثل التعرف على الأماكن والبلدان، واكتساب الخبرة في معرفة الجهات والطرق، وكيفية نصب الخيام، وطبخ الطعام، وغير ذلك.
تقوية أواصر الرحم في رحلات الأقارب، وروابط الأخوة في رحلات الأصدقاء، وهذا مقصد شرعي عظيم دلت عليه نصوص في الشريعة.
تعويد النفس على الخشونة وترك التنعم والمألوف في حياة البر التي تختلف عن حياة المنزل في المدينة. ولما بعث النبي
[صلى الله عليه وسلم] معاذا إلى اليمن قال له: (إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين)([3]), ويروى في بعض الآثار: “اخشوشنوا فإنَّ النعم لا تدوم”.
وهو من أعظمها: التَّفكر في مخلوقات الله العجيبة والوقوف على آيات الله في الكون، والقيام بعبادة التفكر التي قل اعتناؤنا بها في المدينة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] يبدو إلى هذه التلاع)([4]).
(يَبْدُو): أَيْ يَخْرُج إِلَى الْبَادِيَة، وقوله: (إِلَى هَذِهِ التِّلَاع): مَجَارِي الْمَاء مِنْ أَعْلَى الْأَرْض إِلَى بُطُون الْأَوْدِيَة ([5]).
وجاء بإسناد صحيح أن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] كتب إلى أمراء الأمصار أن مروا الناس في أيام الربيع بالخروج إلى الصحراء، لينظروا إلى النور إلى آثار رحمة الله.
ففي البر الفسيح يتاح للمرء أن يتأمل الكون الذي يتجلى فيه كمالُ قدرة الله وعظمته، وإتقانُ صنعته، وبديع خلقه.
قال الله تعالى{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [ ال عمران: 191 ]. وقال سبحانه: }قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ{ [يونس : 101].
تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك |
أيها الإخوة .. ومع ما مضى من تلك الفوائد فإننا نذكر ببعض الآداب والتوجيهات لمن عزم على رحلة برية أو نزهة خلوية، فمن ذلك:
حسن اختيار الرفقة، والحذر من مرافقة أهل الفسق والفساد.
حسن اختيار المكان بأن يكون آمنا من الأخطار والأضرار كالعقارب والحيات، ومجاري السيول، ونحوها. ومن شواهد ذلك في السنة ما جاء عن أبي هريرة
[رضي الله عنه] أن رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] قال: (إذا عرَّستم فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل) ([6])، والمراد بالتَّعْرِيس : نزُول المسافر فِي أَوَاخِر اللَّيْل لِلنَّوْمِ وَالرَّاحَة, وَهَذَا أَدَب مِنْ آدَاب السَّيْر وَالنُّزُول, أَرْشَدَ إِلَيْهِ
[صلى الله عليه وسلم] لِأَنَّ الْحَشَرَات وَدَوَابّ الْأَرْض مِنْ ذَوَات السَّمُوم وَالسِّبَاع تَمْشِي فِي اللَّيْل عَلَى الطَّرِيق لِسُهُولَتِهَا, وَلِأَنَّهَا تَلْتَقِط مِنْهَا مَا يَسْقُط مِنْ مَأْكُول وَنَحْوه, فَإِذَا عَرَّسَ الْإِنْسَان فِي الطَّرِيق رُبَّمَا مَرَّ بِهِ مِنْهَا مَا يُؤْذِيه, فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَبَاعَد عَنْ الطَّرِيق ([7]).
ذكر دعاء المنزل إذا نزل في المكان. قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: “من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق؛ لم يضرّه شيء حتى يرتحل من منزلة ذلك” ([8]).
وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: لدغت عقربٌ رجلا فلم ينم ليلته، فقيل للنبي [صلى الله عليه
وسلم]: إن فلانا لدغته عقرب فلم ينم ليلته، فقال [صلى الله عليه وسلم]: ( أما إنه لو قال حين أمسى: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ ما ضره لدغُ عقرب حتى يصبح) ([9]).
المحافظة على الأذكار المشروعة، كأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، وعند هبوب الرياح ونحو ذلك، ومذاكرة ذلك بين الرفقة وتعليمه للصغار ليتعودوا عليها.
المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها فالحذرَ من تضييع الصلاة أو التفريط في مواقيتها، وقد جاء في فضل الصلاة في البر ما رواه أبو سعيد
[رضي الله عنه] مرفوعا: (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمسا وعشرين درجة، فإذا صلاها بأرض فلاة فأتم وضوءها وركوعها وسجودها بلغت صلاته خمسين درجة) ([10]).
ومن شروط الصلاة: استقبال القبلة، فيجب الاجتهاد في تعيين جهة القبلة بالسؤال أو معرفة العلامات، أو باستصحاب الآلات الحديثة التي تحدد الجهات.
وكذا مراعاة أحكام القصر والجمع، فإن كان محل الرحلة أو النزهة يعد سفرا فيشرع لهم قصر الرباعية، والأفضل عدم الجمع إلا أن يحتاجوا إليه كما لو كانوا في شدة برد أو مع قلة الماء فلهم الجمع بين الصلاتين، وهذا في النزهة التي تعد سفرا يُحمل فيها الزاد والمزاد. كما ينبغي لهم المحافظةُ على رفع الأذان إظهارا للشعيرة وطلبا للأجر، فعن أبي سعيد الخدري
[رضي الله عنه] قال رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]: (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) ([11]).
وكذا يستحب المحافظة على النوافل من الوتر وسنة الضحى، وأما السنن الرواتب فإن كان المكان في حكم السفر فيصلي راتبة الفجر فقط، وإن كان في حكم الإقامة فيصليها جميعا مع الفرائض أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر.
ويحسن أن يصلي المسلم هناك على الأرض مباشرة ولو في بعض الأحيان، فهو أبلغ في الذل للرب العظيم، وفيه اقتداءٌ بالنبي الكريم
[صلى الله عليه وسلم]. قال ابن القيم: “وكان رسولُ اللهِ [صلى الله عليه وسلم] يسجدُ على الأرض كثيراً، وعلى الماء والطين، وعلى الخُمْرَةِ المتَّخذة من خُوص النخل، وعلى الحصير المتَّخذ منه، والفروة المدبوغة” ([12]).
ويشرع أيضا الصلاةُ في النعال، فإنها من السنن الثابتة عن النبي [صلى الله عليه
وسلم]، وربما لا يتهيأ تطبيقها إلا في مثل تلك الرحلات.
مراعاة آداب الخلاء وقضاء الحاجة، ومن ذلك: البعد عند قضاء الحاجة لئلا يراه أحد، وعدم البول في طريق الناس أو ظلهم أو تحت شجرة مقصودة، وعدم استقبال القبلة أو استدبارها حال قضاء الحاجة فإنه محرم في الصحراء، وتجنب البول في الشقوق أو الجحور، لأنه يخشى من خروج حيوان أو دابة تؤذيه، وقد يكون من مساكن الجن فيؤذيهم بالبول فربما آذوه، كما وقع لسعد بن عبادة
[رضي الله عنه].
إن بعض الناس قد تصيبه الجنابة في رحلات البر، فيستحي من ذلك ويؤخر الغسل إلى أن يرجع إلى البيت، وتمر عليه فروضٌ يصليها جنبا، وهذا منكر عظيم، ولذا ينبغي في الرحلات التي يكون فيها مبيتٌ تهيئةُ مكانٍ للغُسل، وهو ميسور الآن ومتوفر في محلات لوازم الرحلات. فيحرم على المسلم أن يترك الصلاة بحجة الجنابة، كما يحرم عليه أن يصلي جنبا وهو يقدر على الغسل، أما لو عجز عن الغسل لعدم الماء أو لتضرره باستعماله كما لو كان البرد شديدا وليس عنده ما يسخن به الماء فيباح له التيمم حينئذ.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله .. ومن آداب الرحلات والنزهات:
غض البصر، فإن بعض ضعاف النفوس يستغل خروج العوائل وتمشيهم في البر فيتتبع محارم المسلمين وينظر إلى ما حرم الله عليه، بل ربما بالغ بعضهم فاصطحب معه مكبرا ليرى ما يريد من بعيد، وهذا يدل على مرض القلب. قال تعالى: }قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم{ ]النور: 30[.
إن جو الرحلات يغلب عليه المرح والمزاح، وهذا لا بأس به، لكن البأس حينما تكون النزهة ظرفا للمعاصي كاستماع المعازف وشرب الدخان أو النظر المحرم أو تعاطي المسكر والعياذ بالله، أو كانت جمعا على تضييع الصلوات والتفريط فيها. يقول النبي
[صلى الله عليه وسلم]: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ([13]).
ينصح أن تطعم النزهة ببعض الفوائد والبرامج الثقافية المفيدة، كالمسابقات الثقافية والعلمية، وتدريب الشباب على إلقاء الكلمات والإمامة في الصلاة.
مما يحسن في الرحلات: إقامة مجالس الأدب والسمر التي تلقى فيها القصائد المشتملة على الحكم والنصائح، وتروى فيها النوادر والقصص المفيدة عن السابقين من الأجداد ومن قبلهم، وهذه مفيدة للشباب في تكوينه وتربيته، مع البعد في ذلك كله عن غيبة الناس أو الفحش في القول.
ومع هذا كله فلا تخلو المجالس من ذكر الله والصلاة على نبيه [صلى الله عليه
وسلم] حتى لا تنقلب حسرة على أصحابها، كما جاء عن أبي هريرة [رضي الله عنه] عن النبي [صلى الله
عليه وسلم] قال: (ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) ([14]). والترة: التبعة والحسرة.
ينبغي الحرص غاية الحرص على نظافة المكان وتركه كما كان أو أحسنَ مما كان قدر الإمكان، وهذا مما جاء به الشرع وحث عليه، ومن المظاهر المؤسفة إهمالُ هذا الجانب عند بعض المتنزهين حتى هجرت بعضُ الأماكن الجميلة بسبب إفساد بعض الذاهبين إليها برمي المخلفات والفضلات.
ولذا ينصح بجعل مكان تجمع فيه الفضلات ثم توضع في المكان المخصص لها، وهذا مطلب شرعي، ومظهر حضاري، وأسلوب تربوي للصغار وغيرهم.
ينبغي المحافظة على البيئة وعدم إفساد الأشجار والأعشاب ليبقى المكان جميلا، وكذا مراعاة الأنظمة المقررة في هذا الجانب والتي تحقق المصلحة العامة للجميع.
مراعاة الستر والعفاف والحياء في جانب النساء والفتيات، فيجب الالتزام بالحجاب إذا كان هناك رجال غير محارم كابن العم أو زوج الأخت، والملاحظ أنه يقع التساهل في ذلك في النزهات والرحلات، فينبغي أن يكون مكان النساء منعزلا ومحققا لهذا المقصد، ولأجل أن تأخذ المرأة راحتها في دخولها وخروجها، فيراعى هذا الأمر من غير تساهل أو تشديد.
يجب مراعاة حق الجار حتى في أماكن النزهة، فيكفُّ المرء أذاه عن جاره فلا يؤذيه برمي الفضلات عنده، أو رفع الأصوات المزعجة، أو النظر إلى محارمه، أو الاعتداء على شيء من أغراضه بغير إذنه. بل يشرع إكرامه وبذل المعروف له.
الحذر من التساهل بالنار أو النوم قبل إطفائها، ففي الحديث عن أبي موسى [رضي
الله عنه] عن النبي
[صلى الله عليه وسلم] قال: (إن هذه النارَ إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم) ([15])، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يتتبع نيران أهله فيطفئها قبل أن يبيت ([16]).
إذا كانت الرحلة تتضمن الصيد والقنص، فليعلم المسلم أن هناك أحكاما في أمور الصيد والذكاة يجب تعلمها والتفقه فيها إما بالقراءة أو بالسؤال.
اللهم …
([1]) رواه الترمذي: (3895), وابن ماجه: (1977), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3314). عن عائشة رضي الله عنها, وجاء عن غيرها.
([2]) ينظر: زاد المعاد (1/151).
([3]) رواه أحمد (22105), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (2668).
([4]) رواه أبو داود: (2478), وأحمد: (24307), وصححه الألباني في الصحيحة: (524).
([7]) شرح مسلم للنووي: (3/ 1525).
([8]) رواه مسلم: (2708). عن خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ رضي الله عنها.
([9]) رواه ابن ماجه: (3518), وصححه الألباني في صحيح وضعيف ابن ماجه.
([10]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: (8390), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3824).
فائدة: أخرج الطبراني في الصغير (416), عن سلمان [رضي الله عنه] مرفوعا: (تمسحوا بالأرض فإنها بكم بَرَّة)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2998), قيل في معنى الحديث: إنه إشارة إلى التيمم، وقيل: أراد مباشرةَ ترابِها بالجباه في السجود من غير حائل.
([13]) رواه الترمذي: (1987), وأحمد: (21354), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (97). عن أبي ذر ومعاذ رضي الله عنهما.
([14]) رواه أبو داود: (4855), وأحمد: (10277) واللفظ له, وصححه الألباني في صحيح الجامع: (5607).