خطب الجمعةخطب نصية

النكاح؛ حُكمه وحِكمه

إن الحمد لله .. اتقوا الله .. أما بعد

فإن الله بحكمته خلق الخلق وأبدعه وأحسنه، ومن كل شيء جعل زوجين لعلنا نتذكر ونعتبر، ومن ذلك جنسُ الإنسان }أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى{ [النجم: 39]. وأقسم الله بذلك – وهو لا يقسم إلا بعظيم – فقال }وما خلق الذكر والأنثى{ أي أُقسم بخلق الذكر والأنثى.

وركب الله تعالى ميلا في كل منهما إلى الآخر، وشرع التزاوج بينهما، وكان مبدأ ذلك من آدم أبي البشر حيث خلق منه حواء ليسكن إليها، }هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ{ [الأعراف: 189]، }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً{ [النساء: 1]، فالنفس الواحدة هي آدم عليه السلام، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} هي حواء، عليها السلام، خلقت من ضِلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه.

وجرت سنة الله وشريعته بالاجتماع بين هذين الجنسين: الذكر والأنثى، في علاقة مقدسة، ورابطة موثقة، وميثاق غليظ، هي عقد النكاح. بل نبه الله تعالى عباده في كتابه العزيز أن هذه آيةٌ من آياته تستدعي التفكر والاعتبار، فقال جل وعلا: }وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{ [الروم:  21].

أيها الإخوة .. وهذا الموضوع من الموضوعات المهمة المتعلقة بحياة الناس وعلاقاتهم، وله جوانب متعددة من جهة مشروعية النكاح وفوائده، ثم الخِطبة والاختيار في أول الأمر، ثم الصداق، والوليمة، والعشرة بين الزوجين، والتعامل مع النفرة والمشاكل الزوجية، وكيف تحل هذه الرابطة إذا استدعى الأمر بالطلاق أو غيره من فرق النكاح. وفي كل هذه الجوانب – وهو ما يسمى فقه الأسرة – نصوصٌ شرعية في الكتاب والسنة، وآثارٌ عن سلف الأمة، يجب بيانها والعلم بها، ليكون المسلم سائرا على المنهج الصحيح في هذا الباب، لأن الواقع يظهر جهلَ كثيرٍ من الناس ببعض هذه الجوانب أو التقصيرَ في امتثالها والعملِ بها، مما يحتم البيانَ بالحجة والبرهان، وهو ما نستعين الله عليه وهو المستعان وعليه التكلان.

المسألة الأولى: معنى النكاح

النكاح في اللغة هو الضم والجمع بين الشيئين، يقال: تناكحت الأشجار إذا اجتمعت.

وفي الاصطلاح الشرعي: عقد يتضمن إباحة الوطء بلفظ إنكاح أو ما دل عليه.

وقد سماه الله تعالى ميثاقا غليظا لبيان أثره وخطره.

ويسمى أيضا: الزواج، ومنه قوله تعالى: }فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها{ [الأحزاب:  37], أي أنكحناك إياها. وزيد في الآية هو زيد بن حارثة
[رضي الله عنه] وكانت تحته زينب بنت جحش، فلما قضى زيد منها حاجته، وطلقها، وانقضت عدتها، زوجناكها يا محمد فصارت إحدى زوجات النبي
[صلى الله عليه وسلم] وأمهات المؤمنين.

ويقابل النكاح: السفاح، وهو الوطء في حرام بالزنا والفجور.

المسألة الثانية: حُكم النكاح

النكاح مستحب مندوب إليه، وهذا هو الأصل فيه.

وضبطه بعض الفقهاء فقال: يسن لذي شهوة لا يخاف الزنا من رجل وامرأة.

والدليل على ذلك جملة من النصوص منها:

أن النكاح من سنن المرسلين، كما قال الله تعالى عنهم: }ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا وذرية{ [الرعد: 83]، وقد أمرنا بالاقتداء بهديهم في قوله عز وجل – بعد أن ذكر جملة منهم، قال-: }أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ{ [الأنعام:90].

وسيد المرسلين وإمامُهم وحظنا منهم نبينا محمد [صلى الله عليه وسلم]، كان يتزوج النساء، وهو أكثر هذه الأمة نساء، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك
[رضي الله عنه] قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] يسألون عن عبادة النبي
[صلى الله عليه وسلم] فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي [صلى
الله عليه وسلم]؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ([1]).

عن عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] قال: كنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] شبابا لا نجد شيئا، فقال لنا رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]: (يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)([2]).

عن عائشة عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني)([3]). وقد يصل الحكم إلى الوجوب، وهو في حالة من يخاف الزنا بتركه، ولو ظنًا. لأن ترك الحرام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

قال الفقيه ابن عابدين: (وكذا فيما يظهر لو كان لا يمكنه منعَ نفسه عن النظر المحرم، أو عن الاستمناء بالكف، فيجب التزوج، وإن لم يخف الوقوع في الزنا)([4]).

المسألة الثالثة: حِكم النكاح

لقد شرع الله النكاح، وجعل فيه مصالحَ وحكما وفوائدَ كثيرة، منها:

السير على هدي المرسلين، وطريقة النبيين، كما سبق.

تحصين الدين، عن أنس [رضي الله عنه] عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي)([5]).

حصول الثواب، لحديث أبي ذر [رضي الله عنه] مرفوعًا: (وفي بضع أحدكم صدقة) – والبضع هو الفرج أو الجماع – قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)([6]).

قال ابن القيم رحمه الله: “ولو لم يكن فيه – أي النكاح – إلا تحصين امرأة يعفها الله به، ويثيبه على قضاء وطره ووطرها، فهو في لذاته وصحائف حسناته تتزايد”([7]).

حصول السكن والمودة والرحمة، كما قال تعالى: }وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {[الروم: 21]. فكم في هذه الرابطة الوثيقة من الأنس والراحة، والهدوء والصفاء، والاستقرار النفسي، والإشباع العاطفي، وتلبية الحاجات الوجدانية للشخص ذكرا كان أو أنثى.

تحصين الفرج، ففي كل عقد نكاح يتم تحصين فرجين عن الحرام بفتح المصرف الحلال لهذه الغريزة المركبة في جنس الإنسان. فالزواج من أنجع الحلول وأنجحها في حماية المجتمع وتطهيره من صور الانحراف الجنسي، لأن الشاب والشابة في هذا السن تشتعل في نفسه نيرانُ الشهوة، وتتوقد براكينُ الغريزة، وإذا لم توجه إلى الطريق الصحيح ربما انحرف به المسار، وانجرف التيار، لا سيما مع كثرة المثيرات، وضعف الدين.

غض البصر، كما قال [صلى الله عليه وسلم] عن الزواج: (إنه أغض للبصر وأحصن للفرج)([8])، فهذه نصيحة نبوية، ودواء مجرب لمن يشتكي من إطلاق بصره في الحرام، أن يتزوج ويقصر طرفه على زوجه، وسيجد الأثر والفرق.

تحصيل النسل وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي [صلى الله عليه وسلم] ، كما في حديث أنس
[رضي الله عنه] مرفوعًا: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)([9]).

وفي حصول الولد مصالح كثيرة من الاستعانة بهم وخدمتهم، والسعي على تربيتهم والنفقة عليهم، وبقاء أثر للمرء بعد موته، وغير ذلك.

قضاء الوطر وتحصيل اللذة، وإخراج الماء الذي يضر احتباسه بالبدن. قال ابن الجوزي في (صيد الخاطر): “اللذات كلها بين حسي وعقلي. فنهاية اللذات الحسية وأعلاها النكاح، وغاية اللذات العقلية العلم”([10]).

وهذه فائدة تبين عناية الشرع بحاجات الإنسان وغرائزه الفطرية، وتهذيبها بين الإطلاق والكبت.

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

الوعد بالعون من الله تعالى. عن أبي هريرة [رضي الله عنه] مرفوعًا: (ثلاثة حق على الله عونهم: .. – وذكر منهم: – الناكح الذي يريد العفاف)([11]).

وقال تعالى: }وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {[النور:  32].

البعد عن الفتنة. قال ابن مسعود [رضي الله عنه]: (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها لي فيهن طول النكاح لتزوجت مخافة الفتنة)([12]).

الله أكبر .. رضي الله عن أبي عبد الرحمن يخاف الفتنة وهو في أطهر العصور، وهو من خيار هذه الأمة بتزكية محمد
[صلى الله عليه وسلم]، فليت بعض الكتاب والمتحدثين والمنفتحين يعون هذا الأثر، حيث الإيمان في قلوبهم يزن الجبال، والمجتمع الطاهر، ولا قنواتٍ فضائية، ولا مواقعَ أنترنت، ولا مجلات، ومع ذلك يخاف الفتنة.

وقيل للإمام أحمد: (ما تقول في التزويج في هذا الزمان؟ فقال: مثل هذا الزمان ينبغي للرجل أن يتزوج، ليت أن الرجل إذا تزوج اليوم ثنتين يفلت، ما يأمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله. قلت له: كيف يصنع؟ من أين يطعمهم؟ فقال: أرزاقهم عليك؟! أرزاقهم على الله عز وجل)([13]).

وقال أيضا: (ليس العزوبية من أمر الإسلام في شيء)([14]).

تجديد النشاط والقوة.

ومنه قول عثمان لابن مسعود رضي الله عنهما: (هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكرًا تذكرك ما كنت تعهد؟)([15]).

قال ابن حجر – رحمه الله -: “يؤخذ منه أن معاشرة الزوجة الشابة تزيد في القوة والنشاط، بخلاف عكسها فبالعكس”([16]).

أيها الإخوة .. هذه بعض مصالح النكاح وحكمه، فهل يتردد أحد في الحث عليه والترغيب فيه. إنني أحث كل شاب قادر أن يبادر ويسارع في تحصين نفسه، وذوق طعم الحياة حيث صفاءُ النفس، ومودة القلب، ولذة البدن، وانشراح الصدر، وسكون البال.

إن من المظاهر المؤسفة التي بدأت تنتشر في المجتمع: تأخرَ الشباب عن الزواج مع القدرة عليه لو أراد، فتجده يتخرج من الجامعة ويتجاوز الخامسة والعشرين، ويصل إلى الثلاثين، بل ربما جاوزها وهو عزبٌ وكلٌّ على والديه، وربما زين له أقرانُه أو بعض وسائل الإعلام أن الزواج قفص وسجن وتقييد للحرية، ونفقات مرهقة، وارتباط ومسؤولية، فيقول: دعني أعيش حرا طليقا، وهذا من الخواء الذي يعيشه بعض الشباب، تذهب زهرة العمر دون هدف أو إنتاج في دين أو دنيا، وهل خلق الرجل إلا لتحمل المسؤولية، والسعي في مصلحة نفسه، وتكوين بيته وأسرته في شبابه وقوته، ليستفيد من أولاده وتقرَّ بهم عينُه، وليحفظ نفسه من الفتن والأخطار.

إن على مراكز التعليم والإعلام، والدعاة والمربين وأولياء الأمور أن يتكاتفوا لعلاج هذه الظاهرة السيئة، وأن يتعاضد الجميع لرفع لواء الزواج المبكر بالحث عليه، والمسابقة إليه، وتيسير أبوابه، ففي هذا خير للجميع من الشباب والشابات والمجتمع برمته.

اللهم ..

 

([1]) رواه البخاري: (5063), ومسلم: (1401).

([2]) رواه البخاري: (1905), ومسلم: (1400).

([3]) رواه ابن ماجه: (1846), حسنه الألباني في الصحيحة: (2383).

فائدة: قال تعالى: }وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{ [النور: 32]، قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: “يأمر تعالى الأولياء والأسياد بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامى، وهم: من لا أزواج لهم من رجال ونساء، ثيب وأبكار، فيجب على القريب وولي اليتيم أن يزوج من يحتاج للزواج ممن تجب نفقته عليه، وإذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم من باب أولى”. وفي تعدية الشيخ الأيامى إلى الرجال نظر، ويدل عليه الآية التي بعدها كما حققه ابن القيم في الفائدة التالية.

فائدة: الجمع بين الآيتين: }إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ{ والتي بعدها }وليستعفف الذين ..{. ينظر: روضة المحبين: (ص441).

([4]) رد المحتار على الدر المختار, لابن عادين: (3/6).

([5]) رواه الحاكم 2/ 175، والبيهقي في الشعب (5101), وقال الألباني في صحيح الترغيب (1916): حسن لغيره.

([6]) رواه مسلم: (1006).

([7]) البدائع: (3/1097).

([8]) سبق تخريجه.

([9]) رواه أحمد: (12613), وابن حبان: (4028), وصححه الألباني لغيره, في تعليقه على ابن حبان: (4017).

([10]) صيد الخاطر: (ص190).

([11]) رواه الترمذي: (1655), والنسائي: (3120), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3050).

([12]) رواه سعيد بن منصور: (493).

([13]) بدائع الفوائد: (4/1406).

([14]) وانظر بقية كلامه في (روضة المحبين): (ص313).

([15]) رواه البخاري: (5065), ومسلم: (1400).

([16]) الفتح: (9/9).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى