الخوف من الله
إن الحمد لله .. اتقوا الله .. أما بعد
فإن القلب ملك الأعضاء إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، وهو موضع نظر الرب كما قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) [رواه مسلم: (2564). عن أبي هريرة رضي الله عنه .] ، وتفاضل الأعمال بحسب ما في القلب، كما قال بكر بن عبد الله المزني: (ما سبقكم أبو بكر رضي الله عنه بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه).
ومن هنا فإننا نتحدث اليوم عن عمل من أعمال القلوب العظيمة، التي يتفاضل الناس فيها تفاضلا كبيرا، وتشتد الحاجة إلى الحديث عنه موعظة وتذكيرا، إنه الخوف من الله.
أمر الله عبادَه بالخوف منه، فقال تعالى:{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 175], { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}[المائدة: 44], { ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير }[آل عمران: 28], وجعله من أخص صفات المؤمنين { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم }[الأنفال: 2]، وتكرر ذكر الخوف في القرآن في 124 موضعا.
يقول ابن القيم رحمه الله عن منزلة الخوف: (وهي من أجل منازل الطريق إلى الله، وأنفعِها للقلب وهي فرض على كل أحد [مدارج السالكين: (1/ 507).] .
وكان السلف يعدون الفقيه من يخاف الله، كما قال مجاهد بن جبر رحمه الله: (الفقيه من يخاف الله عز وجل [رواه الدارمي: (304), قال محققه حسين أسد: إسناده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم.] .
ولذا قال السلف رحمهم الله: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.
فكلما زاد علم المرء بربه ازداد خوفا منه، كما قال تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، يعني من يخشى الله حق خشيته هم العلماء، والخشية أخص من الخوف، فهي خوف مقرون بمعرفة وتعظيم، ولذا كان أرفع الناس منزلة فيها محمدا صلى الله عليه وسلم الذي قال عن نفسه: (والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) [رواه البخاري: (6101), ومسلم: (2356).] .
كان صلى الله عليه وسلم يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء [رواه النسائي: (1214), وأحمد: (16312), وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي، برقم: (276). عن عبد اللَّه بن الشخِّير رضي الله عنه .] ، أي يخرج من صدره صوت كصوت القدر التي تغلي.
وقرأ عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدً}[النساء: 41]، فقال: (حسبك الآن، فإذا عيناه تذرفان [رواه البخاري: (4583).] .
وكان شديد الخوف من عذاب الله، فقد قام ليلة يردد قوله تعالى { إن تعذبهم فإنهم عبادك ..} [المائدة: 118], حتى أصبح. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم، عُرِف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر. فإذا مطرت سُرَّ به، وذهب عنه ذلك. قالت عائشة : فسألته، فقال: ” إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي” [ رواه مسلم: (899).] .
وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام كما قال الله عنهم: { ٱلَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ}[الأحزاب: 39]. وهذه صفة الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يقترون، قال الله عنهم: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل: 50].
وأفضلهم جبريل عليه السلام يقول عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي على جبريل في الملأ الأعلى كالحلس البالي من خشية الله عز وجل) [رواه الطبراني في الأوسط: (4679), وابن أبي عاصم في السنة: (621), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (5864). عن جابر رضي الله عنه .] .
والحلس: الكساء الذي يلي ظهر البعير.
وهكذا كان السلف الأخيار، فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلاً أسيفًا بَكّاء من خشية الله، وعمر الفاروق رضي الله عنه يبكي في صلاته حتى لا يُدْرَى ما يقول، وكان في خدّيه خطّان أسودان من البكاء من خشية الله، وعثمان رضي الله عنه قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.
قال الحسن رحمه الله: (عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا).
مرّ الحسن البصري رحمه الله بشاب وهو مستغرق في ضحكه جالس مع قوم فقال له الحسن: يا فتى هل مررت بالصراط؟، قال: لا. قال: فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا. قال: فما هذا الضحك؟ قال: فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكًا.
الخوف الواجب هو ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وما زاد على ذلك وحمل على التشمير في النوافل وترك المكروهات فهو مستحب محمود.
أما الخوف من الله وخشيته في الخلوات والسر فله شأن آخر عند رب العالمين، { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير }[الملك: 12], ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) [ رواه البخاري: (660), ومسلم: (1031). عن أبي هريرة رضي الله عنه .] .
خلا رجل بامرأة في ظلام الليل، فقال: ما ثم إلا أنا وأنت وهذه الكواكب في السماء، فقالت: هذه الكواكب فأين مكوكبها؟
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل | *** | خلوت ولكن قل علي رقيب |
فلا تحسبن الله يغفل ساعة | *** | ولا أن ما تخفي عليه يغـيب |
{ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}[آل عمران: 5].
يخوف الله عباده ليتقوه { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}[الزمر: 16], ويرسل الآياتِ على عباده لهذا المقصد { وما نرسل بالآيات إلا تخويف} [الإسراء: 59], فأين الخوف من علام الغيوب؟.
الخوف من الله من أسباب النجاة لمن أراد النجاة في الآخرة، قال تعالى في حديث أهل الجنة بعضهم لبعض: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي كنّا في الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه، { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَـٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ} [الطور: 27].
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى) [ رواه البزار (كشف الأستار) 1/ 59 برقم 80. وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (3039).] .
من خاف الله في الدنيا فهنيئا له الأمن يوم القيامة يوم المخاوف، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة) [ رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق: (157), وصححه الألباني في الصحيحة: (2666).] .
قال الحسن: (إن المؤمن لا يصبح إلا خائفا وإن كان محسنا لا يصلحه إلا ذلك ولا يمسي إلا خائفا وإن كان محسنا، لأنه بين مخافتين بين ذنب قد مضى لا يدري ماذا يصنع الله تعالى فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من الهلكات [ الحلية: (2/158). ] .
الخوف من الله سبب لمغفرة الذنوب، { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير}[الملك: 12]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب أو قال: مخافتك، فغفر له) [رواه البخاري: (6480), ومسلم: (2756).] .
الخائف من الله موعود بجنتين من دونهما جنتان { ولمن خاف مقام ربه جنتان}[الرحمن: 46]، ثم قال بعد وصفها: { ومن دونهما جنتان}[الرحمن: 62].
الخوف من الله سبب للخلود في الجنان وحلول الرضوان من الرحمن { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}[البينة: 8].
أهل الخوف من الله هم الذين ينتفعون بكتابه ويتأثرون بآياته، قال سبحانه: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ}[الزمر: 23], { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى: 10], [{ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب}[ق: 33].
الخوف من الله يسوق صاحبه للمسارعة في الخيرات والمنافسة في الطاعات{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون: 61].
فإذا عُمِر القلبُ بالخوف من ربه أورثه نورا وحياة، وساقه إلى العمل والاجتهاد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) [رواه الترمذي: (2450), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (6222). عن أبي هريرة رضي الله عنه .] . و(أدلج) معناه سار من أول الليل، والمراد التشمير في الطاعة.
وهو يسوق العبد إلى ربه فالخائف لا مفر له من ربه إلا إليه.
من كان يصارع الشهوات، وتسللت إلى قلبه فدواؤه الخوف من الله، كما حفظ الله يوسف عليه السلام من فتنة النساء بخوفه من ربه { قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي} [يوسف: 23]. قال إبراهيم بن سفيان: (إذا سكن الخوفُ القلب أحرق مواضع الشهوات وطرد الدنيا).
قال الغزالي: (لا تنقمع الشهوة بشيء كما تقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات) [إحياء علوم الدين (4/160).] .
الخوف من الله خير سبب لمحاربة الجريمة، فإذا خاف الناس من ربهم ردعهم ذلك عن الجرائم من القتل والسرقة والزنا وغيرها، فما الذي ردع هابيل أن يقتل أخاه سوى خوفه من ربه { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[المائدة: 28].
بارك الله
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة .. نشكو إلى الله قسوة القلوب وكثرة الذنوب وضعف الخوف من علام الغيوب، فما أحوجنا إلى تلمس الدواء لعلاج هذا الداء
إن من أعظم ما يثمر الخوف في القلب ويحييه: تدبر كلام الله فهو شفاء القلوب، هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، فهو مصدر من مصادر الخشية.
ومما يجلب الخوف وينميه: التفكر في عظمة الله تعالى وصفات جلاله وقوته، فهو العظيم الكبير المتعال شديد المحال،من صفاته الغضب والبطش والانتقام، { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67], قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ذات يوم على المنبر، فقال بيده هكذا يحركها؛ يقبل بها ويدبر، يمجِّد الرب نفسه: (أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، حتى قال الصحابة: ليخرَّن به) [رواه أحمد: (5414), عن ابن عمر رضي الله عنه, وصححه الألباني في الصحيحة: (3196), (7/596), وقال: (وإسناده صحيح على شرط مسلم). وأصله في مسلم: (2788).] .
قام النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه يوما يخبرهم عن ربهم جل وعلا، فقال: (إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور – وفي رواية: النار – لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) [ رواه مسلم: (179). عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه .] .
فالعلم بالله سبب للخوف منه فمن كان بربه أعرف كان منه أخوف.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجد لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) [ رواه الترمذي: (2312), وأحمد: (21516), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (2449).] .
ومما يجلب الخوف في القلب: تذكر الموت وما بعده، فكيف لا يخاف الله من يؤمن بأهوال عظام تنتظره من نزع الروح وسكرة الموت، وقبر ضيق مظلم، وبعث وحشر وحساب وأهوال يشيب منها الوليد، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ)، فكأن ذلك ثقل على أصحابه، فقالوا: فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا) [رواه الترمذي: (3243), وصححه الألباني في الصحيحة: (1079).] .
يا غافل القلب عن ذكر المنيات | *** | عما قليل ستلقى بين أموات |
لا تطمئن إلى الدنيا و زينتِها | *** | قد آن للموت يا ذا اللب أن ياتي |
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحج: 2].
ومما يجلب الخوف في القلب: مجالسة الصالحين وسماع المواعظ وحضور مجالس الذكر التي تذكر بالله والدار الآخرة { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}[الذاريات: 55]، فحاجة القلب إلى هذه المجالس أشد من حاجة السمك إلى الماء، فاحرصوا على حضورها والانتفاع مما يقال فيها.
إن منزلة الخوف من الله قد تقهقرت في النفوس وضعفت في القلوب، نرى الناس يدفنون موتاهم بأيديهم ثم يخرجون من أبواب المقابر ضاحكين وإلى غفلتهم راجعين.
مخافة الله رأس الحكمة فهي تضبط النفس الجامحة وتمنعها من مجاوزة حدها، الخوف من الله يمنع البائع أن يغش في بيعه، ويمنع كل صاحب مهنة أن يقصر في مهنته لأن خوفه من ربه يحجزه، الخوف من الله يمنع من أكل حقوق الناس.
أيها الإخوة .. دعونا نعود لقلوبنا فنغسلها بماء الخوف الطهور ونغذيها بهذه المعاني الإيمانية فنحجز النفس عن أهوائها وحينذاك ستصلح القلوب وتستقيم النفوس وتسعد في الدنيا والآخرة { وأما من خاف مقام ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41].
اللهم إنا نسألك خوف العالمين بك، وعلم الخائفين منك، اللهم إنا نسألك خشيتك في السر والعلانية، اللهم اقسم لنا من خشيتك ..