الخشوع في الصلاة (2)
إن الحمد لله .. أما بعد .. اتقوا الله ..
أيها الإخوة .. سبق الحديثُ عن منزلة الخشوع في الصلاة، وبيانِ معناه، وأنه روحُ الصلاةِ ولبُّها، فتشوفت النفوسُ إليه، وتطلعت إلى تحصيله، لتنعم بالصلاة وتفوزَ بثوابها، ولسانُ كل منا يقول: كيف السبيلُ إليه فإني أعاني قصورا فيه، وأشكو من كثرة الخواطر والأفكار والهواجس في الصلاة؟
الجواب: أننا جميعا نعاني من ذلك، ونسأل الله العفوَ والمعونةَ على حسنِ عبادته. لكن ثمة أسبابا معينة على تحصيل الخشوع في الصلاة، لعلنا نتذاكرها في هذا المقام، ونجتهدُ ونبادر في العمل بها، فمن ذلك:
1. إصلاح القلب لأن أصل الخشوع في القلب، وهو ملك الأعضاء إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله. ثم ينبع أثرُ ذلك على الأعضاء. وقد كان من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في ركوعه: (خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي) [ رواه مسلم: (201) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه.] .
والمرء يتأثرُ حالُه وفكرُه في الصلاة بحاله خارجَها، فإذا كان حالُ الإنسانِ في قلبه وعمله صالحا في يومه وليلته رُجي صلاحُه وخشوعُه في صلاته.
لهذا يجب الحرصُ على خشوع القلب أولا، والحذرُ مما حذَّرَ منه السلفُ وهو خشوعُ النفاق. قال حذيفة رضي الله عنه: (إياك وخشوع النفاق! قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسدَ خاشعاً والقلب ليس بخاشع [أخرجه الديلمي، في مسند الفردوس: (2/ 204)، برقم (3007)، وابن عدي، في الكامل في الضعفاء: (3/ 455), وذكره ابن القيم في مدارج السالكين: (1/ 521). وابن رجب في كتاب الخشوع في الصلاة: (ص 13).] .
ورأى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً طأطأ رقبته فقال: (يا صاحبَ الرقبة ارفع رقبتك، ليس الخشوعُ في الرقاب إنما الخشوعُ في القلوب [ذكره الإمام الذهبي في كتاب الكبائر: (ص 143), دون عزو، وانظر الإحياء: (2/296), ومدارج السالكين لابن القيم: (1/ 521 – 252).] .
ويبين عليٌ رضي الله عنه خشوعَ الصلاةِ فيقولُ: (هو خشوعُ القلب، ولا تلتفتُ في صلاتك، وتلينُ كنفك للمرء المسلم [أخرجه ابن المبارك في الزهد: (1148) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 279).] .
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (كان يُكره أن يُريَ الرجلُ من الخشوع أكثرَ مما في قلبه [مدارج السالكين (1/ 517) .] .
ويصف الحسن رحمه الله حال السلف بقوله: (كان الخشوع في قلوبهم، فغضوا له البصر في الصلاة [فتح الباري لابن حجر: (6/366).] .
وقد فرق العلامة ابن القيم رحمه تعالى بين خشوع النفاق وخشوع الإيمان فقال: (خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسرُ القلبُ لله كسرةً ملتئمةً من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعمة الله وجنايات العبد فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوعُ الجوارح، وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعاً وتكلفاً والقلب غير خاشع… [الروح لابن القيم: (2/ 694 – 695), تحقيق د. بسام العموش, الطبعة الأولى. ولكلامه تتمة مفيدة: (فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة، فماتت شهوات النفس للخوف والوقار الذي حُشِيَ به، وخمدت الجوارح، وتوقّر القلب، واطمأنّ إلى الله وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه، فصار مُخبِتاً له، والمخبت المطمئنّ .. فهذا خشوع الإيمان.
وأما التماوت، وخشوع النفاق، فهو حالُ عبدٍ تكلَّف إسكان الجوارح تَصنُّعاً، ومراعاة، ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات، وإرادات، فهو يتخشع في الظاهر، وحية الوادي، وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة).] .
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا | *** | وفي كل يوم واعظ الموت يندب |
2. معرفة عظمة الله بأسمائه وصفاته والخوف من لقائه والوقوف بين يديه .
إن الخشوعَ له ارتباطٌ بإيمان العبد وتقواه لربه خارج الصلاة، فكلما كان العبد محققا للتقوى خائفا من ربه في تعامله مع نفسه ومع الناس؛ كلما كان هذا أدعى لخشوعه وحضور قلبه في الصلاة.
سئل حاتم الأصم رحمه الله كيف يؤدي صلاته فقال: (أكبر تكبيراً بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعاً بخضوع، وأسجد سجوداً بتذلل، وأعتبر الجنة عن يميني، والنار عن شمالي، والصراط تحت قدمي، والكعبة بين حاجبي، وملك الموت على رأسي، وذنوبي محيطة بي، وعين الله ناظرة إلي، وأعدها آخر صلاة في عمري، وأتبعها الإخلاص ما استطعت ثم أسلم، ولا أدري بعدها أيقبلها الله مني أم يقول: اضربوا بها وجه من صلاها).
هكذا كانت صلاتهم فكيف صلاتنا؟.
ويتعلق بذلك: أن يستحضرَ العبدُ مقامَ الصلاةِ وأنه يناجي ربه.
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قِبَلَ وجهِهِ فلا يتنخمن أحدٌ منكم قِبَلَ وجهه في الصلاة) [رواه البخاري: (753).] .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه [رواه أبو داود (909), والنسائي (1196), وأحمد (21508), وحسنه الألباني لغيره في (صحيح الترغيب) برقم (554)، وقال محققو مسند الإمام أحمد برقم: (21508): (صحيح لغيره، وهذا إسناد محتمل للتحسين).] .
وقال عبد الله بن أبي سليمان رحمه الله: (كان علي بن الحسين رحمه الله إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له : ما لك ؟ فقال : تدرون بين يدي من أقوم، ومن أناجي؟ [حلية الأولياء: (3/ 133), وسير أعلام النبلاء: (4/ 392).] .
فمن استحضر ذلك وقام بقلبه؛ كانت الصلاة أنسَه وسروره وقرةَ عينه، يجد فيها نعيما وحلاوة كما قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) [رواه النسائي (3940), وأحمد (12294), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3124). عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه .] ، وقال: (أرحنا بها يا بلال) [رواه ابو داود: (4985) بلفظ: (يا بلال! أقم الصلاة أرحنا بها), ولأحمد (23088): (يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (7892). ] .
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: (ما دخل عليَّ وقتُ صلاةٍ إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل عليَّ فرضٌ إلا وأنا إليه مشتاق [ الحلية: (2/162).] .
وكان الإمام عاصم بن أبي النجود رحمه الله – قارئ الكوفة – محباً للصلاة وكان ربما ذهب لحاجة فإذا رأى مسجداً قال لمن معه: (مِلْ بنا، فإن حاجتنا لا تفوت ثم يدخل فيصلي! [السير: (5/259).] .
وبلغ من حب ثابت البناني رحمه الله للصلاة أنه كان يدعو فيقول: (اللهم إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فائذن لثابت أن يصلي في قبره! [الحلية: (2/319).] .
3. تخفيف القلب من التعلق بالدنيا وحطامه.
فإن الدنيا والآخرة ضرتان، من تعلق بإحداهما أضرَّ بالأخرى، ومن أراد ذوقَ حلاوة الصلاة والمناجاة فليخفف من التعلق بالدنيا ومتاعها الفاني، فإن القلوب أوعية كالآنية.
سمع عامر بن عبد قيس رحمه الله ما يشكونه من تذكر أمر الضيعة في الصلاة، فتعجب وقال: (أتجدونه؟ قالوا : نعم. قال: والله؛ لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يكون هذا مني في صلاتي [أخرجه ابن المبارك في الزهد: (859), ومن طريقه: أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة: (834). ] .
وروى مالك في موطئه أن رجلاً من الأنصار كان يصلي في حائط له في زمان الثمر، والنخل قد ذللت، وهي مطوقة بثمرها فنظر إليها فأعجبته ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لم يدر كم صلى؟ فقال: (لقد أصابني في مالي هذا فتنة، فجاء عثمانَ رضي الله عنه وهو يومئذ خليفة فذكر ذلك له وقال: هو صدقة فاجعله في سبل الخير، فباعه بخمسين ألفاً. لأنه فكر فيه في صلاته فأشغله عنها! [الموطأ: (70), وقال محققو جامع الأصول عند الحديث (8490): (إسناده منقطع).] .
حضور القلب معناه أن يفرغ القلب من غير ما هو ملابس له، وسبب ذلك الهمة، فإنه متى أهمك أمرٌ حضر قلبُك ضرورة، فلتكن الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا، ولا تكن سببا في إفساد عباداتنا ومناجاتنا مع ربنا. لما سمع بعض السلف قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}[المائدة: ], قال: (كم من مصلّ لم يشرب خمرا، هو في صلاته لا يعلم ما يقول؛ أسكرته الدنيا بهمومها) ( [الإحياء: (1/150), والقائل وهب رحمه الله.] .
4. الاستعداد للصلاة مبكراً.
وهذا من أسباب الخشوع فيها، ويكون ذلك بإجابة النداء لها حين يسمع المؤذن، ثم يتطهر في البيت ويحسن الطهور، عن أبى هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة) [رواه مسلم: (666).] .
ويخرج إلى الصلاة مبكرا بسكينة ووقار فهو أدعى لخشوع القلب وسكون الجوارح، ويجتنب تشبيك أصابعه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم خرج يريد الصلاة فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته فلا تقولوا هكذا – يعني يشبك بين أصابعه) – [رواه الدارمي في سننه: (1446), والحاكم: (744), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (445), عن أبي هريرة وجاء عن كعب بن عجرة عند الترمذي برقم: (387)، بلفظ: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإنه في صلاة), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (442).] .
ومن تمام الاستعداد المعين على الخشوع: العنايةُ بالزينة واللباس الحسن، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، أي عند كل صلاة. فإن الثوب النظيف والرائحة الطيبة تدل على اهتمام العبد بلقاء ربه وعنايته بصلاته، وهي من أسباب الخشوع فيها.
ومما ينبه عليه تهاونُ كثيرٍ من المسلمين في هذا، فتجده يصلي بثياب النوم أو بملابس الرياضة التي لا يجرؤ أن يذهب بها إلى عمله أو إلى مناسبة من المناسبات، وهو ممن وسع الله عليه، فيؤدي فريضة الله في بيت الله مع عباد الله بمثل تلك الملابس. عن ابن عمر مرفوعا: (إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله أحقُّ أن يتزين له [رواه الطبراني في الأوسط: (9368), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (652).] .
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله ..
5. ومن الأمور المعينة على الخشوع:
إفراغُ النفس من المشاغل عند الدخول في الصلاة، فيستعد المصلي لصلاته استعدادا نفسيا بقطع كل ما يشغله عن صلاته، ومن ذلك مما جاء في السنة: الطعامُ إذا حضر، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء) [رواه البخاري: (671), ومسلم: (557).] .
فإذا حضر الطعام وهو يشتهيه بدأ بالطعام لأنه لا يخشع في صلاته إذا تركه وقام يصلي ونفسه متعلِّقة به.
بل دلت السنة أن لا يعجل حتى تنقضي حاجته من الطعام، لحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وُضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه [رواه البخاري: (673), ومسلم: (559).] .
وهذا يدلك على أهمية الخشوع وحضور القلب في الصلاة.
ومن المشاغل التي تخل بالخشوع في الصلاة: أن يصلي الشخص وقد حصره البول أو الغائط، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) [رواه مسلم: (560).] ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل وهو حاقن) [رواه ابن ماجة: (616), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (6832). وفي لفظ له (619): (لَا يَقُومُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ حَاقِنٌ حَتَّى يَتَخَفَّفَ), وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة.] . والحاقن أي حابس البول، والحاقب هو حابس الغائط.
فمن عرض له ذلك فعليه أن يقضي حاجته ولو فاتته صلاة الجماعة، لحديث عبد الله بن الأرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد أحدكم أن يذهب الخلاء وقامت الصلاة فليبدأ بالخلاء) [رواه أبو داود (88), وصححه الألباني في صحيح أبي داود.] .
بل لو عرض ذلك للمصلي أثناء الصلاة فإنه يقطع صلاته لقضاء حاجته، ثم يتطهر ويصلي ولو فاتته الجماعة للحديث السابق: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) [سبق تخريجه.] .
ولأن مدافعة البول والغائط مشغلة مذهبة للخشوع إضافة إلى ما في ذلك من ضرر صحي كما ذكر ذلك الأطباء.
ويشمل هذا الحكم أيضا مدافعة الريح والغازات.
قال ابن تيمية رحمه الله: (صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء بالاحتقان.. [مجموع الفتاوى: (21/273). وتتمته: (فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَ الِاحْتِقَانِ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَفِي صِحَّتِهَا رِوَايَتَانِ، وَأَمَّا صَلَاةُ التَّيَمُّمِ فَصَحِيحَةٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ).] .
وكل هذا يبين حرص الشريعة على مقام الخشوع في الصلاة، كيف لا، وهو روح الصلاة ولبها.
اللهم إنا نسألك المعونة على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك الخشوع في صلاتنا وحضور القلب فيها، وأن تتقبلها منا وافية كما تحب. اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع ..