مداد القلم

البحوث العلمية … بين المظهر والجوهر

يعد كثيرٌ من طلاب الدارسات العليا هذه الدراسة مرحلة جديدة عليهم ، تحمل في طياتها وبين تضاعيفها كثيراً من المستجدات ، لم يكونوا يألفوه في دارستهم السابقة .

ومن أبرز تلك المستجدات ما يسمى بالبحوث العلمية ، وهي – بلا شك – ميدان رحيب ، ومرتع خصيب للعقل والفكر والإبداع ، حيث يستطيع الباحث بما وهبه الله تعالى أن يتعامل مع المشكلة التي يريد بحثها من جميع جوانبها ، وتبرز من خلال ذلك سعة تفكيره ، وقوة تصوره ، ومدى أفقه العقلي والعلمي .

ولست أشير في هذه العجالة إلى بحوث الطلاب في المرحلة الجامعية فهي تعاني من الخواء والضعف – في الجملة – ما لا يحتاج إلى دليل ، ولكني أطرح هنا : البحوث العلمية في مرحلة الدراسات العليا ، وتحديداً في مجال الدراسات الإسلامية .

إن أمتنا الإسلامية في واقعها المعاصر تمر بأزمات ونوازل تحتاج إلى مجتهدين من الطراز الأول يبينون أحكام الله تعالى فيها على هدى قويم ، وصراط مستقيم .

ومن السبل المثالية التي يمكن فيها دارسة تلك الأزمات والنوازل ، على اختلاف مجالاتها سواء في ميدان الدعوة والتعامل مع غير المسلمين ، أو في مجال الاقتصاد والمعاملات ، أو السياسة أو الطب أو غيرها : البحوث العلمية ، وذلك للمستوى العلمي الجيد للباحثين في تلك المستويات ، وقدرتهم على التعامل مع المصادر والمراجع ، مع النضج العقلي والإدراك ، والتفرغ الكلي أو الجزئي في فترة إعداد البحث ، فمع هذه المقومات كان يمكن أن تتوجه البحوث العلمية إلى ملامسة قضايا الأمة ، والإبداع في دارستها وعرضها، وإيجاد الحلول واستخلاص النتائج والأحكام .

إلا أن الواقع لا يتواءم مع هذه الأمنية ، فمع وجود عدد من الدارسات الجادة المجددة التي تتسم بحيوية الموضوع ، والعمق في بحثه ومعالجة كافة جوانبه ، إلا أن الأغلب على تلك البحوث والرسائل العلمية أنها تخرج عن ذلك إما لقصور أصحابها ، أو تقصيرهم أو لأسباب أخرى الله أعلم بها .

إن الأهم والأولى من تلك البحوث العلمية هو أن يعالج البحث حقيقة البحث ، ويلامس شغافه ، ويتوغل في أعماقه ، بمعنى : أن يحتوي البحث على موضوع البحث أصلاً ، وما ينبغي أن يكتب فيه مما يكون القارئ في أشد الحاجة والتلهف إليه ، دون التزيد في النواحي الشكلية والأمور الفنية .

أقول هذا لأننا أصبحنا نرى كثيراً من البحوث العلمية في الآونة الأخيرة – وخاصة في مجال الدارسات الإسلامية والعربية – أصبحت تهتم بالصورة على حساب الحقيقة ، بالمظهر على حساب الجوهر ، فأصبحت ترى التوسع في أمور كثيرة – وهي مهمة بلا شك – فتؤثر على جوهر الموضوع وصلب البحث ، وعلى سبيل المثال : التوسع في التعاريف والاشتقاقات اللغوية ، وتراجم الأعلام ، والإطالة المفرطة في تخريج الأحاديث ، والتوطئات والتمهيدات ، والفهارس الفنية والغلو في ذلك أحياناً .. وغيرها .

ولذلك كانت النتيجة أن أصبحت ترى عشرات بل مئات البحوث والرسائل العلمية مسندة على أرفف المكتبات المركزية ، وقد علاها الرهج الكثيف ، لأن القراء لم يجدوا بغيتهم فيها على الرغم من أن الباحث الذي كتبها قد أمضى سنوات من نفيس عمره في تدبيج تلك الرسالة .

إن هذه الرسائل في الحقيقة قد استهلكت صفوة طلاب العلم بل أخذت من هؤلاء الصفوة صفوة أوقاتهم وأعمارهم ، ولم نجد لها الأثر في البناء العلمي ، والتأصيل المنهجي الذي يتناسب مع ما تأخذه من وقت وجهد ، بل أذهبت رونق العلم ، وبهاءه وهيبته ، حينما دخلت فيها بعض الشفاعات والمجاملات والسرقات .

لذا فالحاجة ماسة إلى إعادة النظر في طريقة بناء أساتذة الجامعات وتأهيلهم علمياً وإتقان العلم الذي تخصصوا فيه ، ويمكن إيجاد بدائل أخرى أكثر فائدة وعمقاً وبناءاً وتأصيلاً في كل فن بحسبه .

وحتى ما قبل ذلك في مرحلة البحث عن موضوع ، التي أصبحت بعبعا يؤرق الدارسين ، أقول: يكتنف تلك المرحلة ما يكتنفها من أمور يقصر المقام عن ذكرها ، فالغالب يتوجه إلى ما يسمى بالمشاريع العلمية التي تطرحها الأقسام ، لأن الخطة جاهزة معدة ، والموافقة مضمونة ، والإجراءات الروتينية تمشي فيها سريعاً ، وأما الموضوعات المبدعة المجددة ، فيقدمها صاحبها في حماس متقد لكنه يواجه بتأخير ، وطلب تقارير ، ولجان وجلسات حتى ربما سحب الباحثُ نفسه وترك الموضوعَ برمته .

إن الموضوع – في ظني – جدير بالأهمية والبحث ، وإن كان هذا المنهج قد أُخذ من الغرب في علومهم فقد يناسب بعض العلوم دون بعض ، ويجب على المسلم أن ينشد الحق ويتبعه حيثما كان .

ومن خلال هذا المنبر أردت أن أطرح هذه الفكرة علها تصادف التجاوب والنقد من الأساتذة والمختصين ، وأن يتوجه النظر في مجال البحوث والرسائل العلمية إلى الجوهر لا المظهر ، وإلى الكيف لا الكم ، وقد أثار هذا الموضوع مكنونا في النفس ، فهذه نفثات صدر المكمد ، والله تعالى أسأل أن يهدينا ويسددنا ، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه إنه خير مسؤول وأجود مأمول .

تعليق واحد

  1. سددت ووفقت شيخنا، وقد لامست جرحًا ..
    أضيف على ماذكرت “الديباجة الإلزامية المملة في صيياغة الرسالة
    وإلزام الباحث في فصول وفقرات هو والقارئ في غنى عنها، كذلك القصور من قبل بعض المشرفين، والقصور الأعظم من أعضاء هسئة التدريس في التعاون مع الباحث في بعض الأموو البسيطة جدًا والتي تعرقل مسير البحث كـ “تحكيم الاستبيان مثلًا”

    بحثي متعرقل منذ ٥ أشهر بسبب ١٥ ورقة يجب أن آخذ موافقة مشرفي المشغول عليها والله المستعان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى