كتب ومقالات

المسح على الخفين

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. وبعد

فقد شرع الله العبادات على وفق اليسر والسهولة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

ومن جملة ذلك: عبادةُ الوضوء، حيث يسر الشارعُ على المكلفين، وأباح لهم المسحَ على الحائل الملبوس على الرجل، كالخف المصنوع من الجلد،

khof-01

والجورب المصنوع من القطن والكتان ونحوهما مما يسميه الناس: الشُرَّاب.

khof-02

والمسح على الخفين ثابت متواتر في السنة، قال الحسن البصري رحمه الله: (حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين) [ الأوسط لابن المنذر: (1/ 427، 433).] ، وقال الإمام أحمد رحمه الله: (ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن الصحابة مرفوعة وموقوفة) [ذكره ابن قدامة في المغني: (1/ 360)، وانظر كثيرا من الآثار في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 175 – 184).] .

 

ولعلي أقرب أحكام هذا الباب، وأجمع أطرافه بعون الله تعالى، مستعينا بكلام أهل العلم قديما وحديثا.

وسيكون ذلك في المسائل الآتية:

المسألة الأولى: توقيت المسح، ومتى تبدأ المدة؟

اعلم أن المسح على الخفين عبادةٌ موقتة بوقت معين، وهو يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، لحديث علي رضي الله عنه قال: (جعل النبي صلى لله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم – يعني في المسح على الخفين) [رواه مسلم (276).] ، يعني أن المقيم يستبيح المسحَ أربعاً وعشرين ساعة، والمسافرَ اثنتين وسبعين ساعة.

لكن متى تبدأ هذه المدة؟

الجواب: تبدأ من المسح بعد الحدث، كما عليه الفتوى.

مثال ذلك: توضأ رجل لصلاة الفجر يوم السبت وغسل رجليه بالماء، ثم لبس الشراب، ثم أحدث الساعة التاسعة صباحا، ثم توضأ لصلاة الظهر الساعة الثانية عشرة، ومسح على الجوربين، فهنا بدأت المدة، وله أن يمسح عليهما إلى الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم الأحد.

 

المسألة الثانية: شروط المسح

اعلم أن المسح على الخفين والجوربين ونحوهما له شروط ذكرها أهل العلم، ومنها:

1. لبسهما على طهارة.

لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى لله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهور ثلاثا إذا سافرنا وليلة إذا أقمنا) [رواه أحمد (18093), وابن خزيمة, وصححه (193), وابن حبان (1319), وصححه ابن حجر في الفتح (1/309), وقال الألباني في الإرواء (104): (حسن صحيح).] .

وهذا الشرط متفق عليه بين أهل العلم، والمراد: الطهارة المائية بمعنى أن يغسل الرجلين في الوضوء، ثم يلبس الخفين، أما طهارة التيمم فليس لها تعلق بالرِّجل، إنما هي في الوجه والكفين فقط.

وبناء عليه: لو أن إنساناً ليس عنده ماء، أو كان مريضاً لا يستطيع استعمال الماء في الوضوء، فإنه يلبس الخفين ولو كان على غير طهارة، وتبقيان عليه بلا مدة محدودة حتى يجد الماء إن كان عادِماً له، أو يشفى من مرضه إن كان مريضاً، لأن الرِّجل لا علاقة لها بطهارة التيمم.

 

فرع: لبس الخف الأيمن قبل غسل الرجل اليسرى

يتعلق بهذا الشرط مسألةٌ يسأل عنها كثيرٌ من الناس، وهي: لبس الخف أو الشراب قبل كمال الطهارة، بمعنى لو أنه توضأ وغسل رجله اليمنى ثم لبس خفها، ثم غسل اليسرى ولبس خفها فهل يجوز المسح؟

الأولى ألا يفعل ذلك، بل يؤخر لبس الشراب حتى ينتهي من طهارته بغسل الرجلين جميعا، ليصدق عليه أنه لبسهما على طهارة كاملة، وهذا أظهر في الدليل، وأحوط في العمل، واشترط ذلك جمهور العلماء.

 

2. أن يكون المسح في الحدث الأصغر.

لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى لله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولـكن من غائط وبول ونوم) [رواه الترمذي, وصححه (96), وابن ماجة (478), وابن خزيمة وصححه (17), وصححه الألباني في الإرواء: (104).] .

فلا يجزئ المسح على الخفين في الغسل سواء كان غسلا واجبا أو مسنونا.

 

3. أن يكون المسح في المدة المحددة شرع

وهي كما سبق يومٌ وليلة للمقيم، وثلاثةُ أيام بلياليها للمسافر.

 

4. أن يكون الحائل ساترا لمحل الفرض

ومحل الفرض هو ما يجب غسله في الوضوء.

ويتعلق بهذا الشرط مسألتان:

أ‌. ما يبدو معه بعضُ محلِ الفرض لقصوره عن الستر.

كالذي يكون نازلا عن الكعبين، أو يظهر بعض مشط القدم، كالكنادر التي لا تغطي جميع محل الغسل في الرجل.

khof-03

أو ما يظهر معه العقبُ أو الأصابع كمشد القدم، الذي يسمونه الأنقل

khof-04

، أو ما يكون مخرقا خروقا كبيرة، فكل هذه الصور لا يصح المسح فيها، لأن الملبوس لم يستر محل الفرض، وليس هذا بالخف المعهود الذي جاءت الرخصة بالمسح عليه.

وأما إذا كان الشراب ونحوه فيه خرقٌ يسير عرفا فلا بأس، ويجوز المسح عليه، لأن هذا اليسير لا يخرج الخف عن مسماه المعهود فيمسح عليه.

 

الضابط: يفرق بين الخرق الكبير واليسير، وهذا اختيار ابن تيمية وأفتى به الشيخ ابن باز، وهو مقتضى قاعدة الشريعة في العفو عن اليسير.

وكلما كان اللباس سالما من الخروق فهو أفضل لا سيما لمن وسع الله عليه، لأنه أبعد عن الخلاف وأكمل في الزينة؛ أن يتوجه المسلم في صلاته بلباس حسن سالم من العيوب.

 

ب‌. ما لا يستر محل الفرض لرقته

كالجورب الشفاف الذي يشف عن لون البشرة.

فهذا لا يمسح عليه في المذاهب الأربعة وعند جماهير أهل العلم، لأن القدم هنا في حكم المكشوف، والمكشوف حكمه الغسل.

· فائدة:

مما يحسن بيانه في مبحث الشروط أنه لا تشترط نية المسح عند لبس الخفين أو نية المدة، لأن هذا عمل عُلّق الحكم على مجرد وجوده ، فلا يحتاج إلى نية، كما لو لبس الثوب فإنه لا يشترط أن ينوي به ستر عورته في صلاته مثلاً.

 

المسألة الثالثة: صفة المسح

المشروع في المسح أن يمسح أكثر أعلى الخف من أصابعه إلى ساقه، ولا يشرع مسح أسفله، كما لا يشرع التكرار بل يمسح مرة واحدة لأن طهارة المسح مبنية على التخفيف كما في مسح الرأس.

وكيفما مسح أجزأ، وظاهر السنة أن المسح باليدين جميعاً على الرجلين جميعاً، يعني اليد اليمنى تَمسح الرِّجل اليمنى، واليد اليسرى تمسح الرِّجل اليسرى في الوقت نفسه، كما تُمسح الأذنان، لقول المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في وصف فعل النبي صلى لله عليه وسلم: “فمسح عليهما” [رواه البخاري, واللفظ له: (206), ومسلم (272).] . ولم يقل: بدأ باليمنى.

ولو بدأ باليمنى ثم اليسرى، أو عكس، أو مسح الرجل اليمنى باليد اليسرى والعكس فالمسح صحيح.

 

المسألة الرابعة: الجمع بين خفين، وأثر ذلك على المسح

قد يجمع المرء بين خفين أو شُرابين لقصد التدفئة أو لغير ذلك، ويشكل حكم ذلك من جهة المسح، ولتوضيح ذلك أقول:

إن لبس الخف على الخف له صورتان:

1. أن يلبس الثاني قبل الحدث

فإن لبس خفا على خف قبل الحدث فالحكم للفوقاني سواء مسح على التحتاني أم لا.

وقولنا: الحكم للفوقاني هذا على سبيل الجواز، وإلا فله أن يجعل المسح على التحتاني، فهو بالخيار، فإن مسح الأسفل تعلق الحكم به ولا يضره نزع الأعلى، وإن مسح الأعلى تعلق الحكم به فإن نزعه لزم نزع الأسفل، ومتى مسح أحدهما لم ينتقل إلى الثاني.

مثال ذلك: رجل توضأ لصلاة العصر ولبس الشراب (الجورب)، ثم مسح عليه لصلاة المغرب تجديدا ولم يحدث، وبعد الصلاة أراد أن يلبس شُرابا (جوربا) ثانيا لتدفئة رجليه، فله ذلك، ويمسح على الثاني لصلاة العشاء وما بعدها، لأنه لبس الثاني قبل الحدث، وبعبارة أخرى: قبل ابتداء المدة.

 

2. أن يلبس الثاني بعد الحدث

فالأحوط ألا يمسح عليه، لأنه لم يدخله على طهارة مائية، ويكون المسح متعلقا بالأول.

مثال ذلك: رجل توضأ لصلاة العصر ثم لبس الشراب (الجورب)، ثم أحدث بعد العصر، وحينما جاء المغرب توضأ ومسح عليه، ثم لبس شرابا (جوربا) آخر فوق الأول، فهل يمسح على الفوقاني عند صلاة العشاء؟

الجواب: لا، لأن الحكم والمدة تعلقت بالتحتاني، ثم هذا الفوقاني – الثاني – لم يُدخل على طهارة مائية بغسل الرجلين، وهذا مذهب جماهير أهل العلم.

والحل في مثل هذه الصورة أن يخلع الأول، ثم يتوضأ ويغسل رجليه، ثم يلبس الشرابين جميعا.

 

المسألة الخامسة: مبطلات المسح

من المعلوم أن المسح على الخفين والجوربين جزء من الوضوء يبطلها ما يبطل الوضوء من النواقض المعلومة، لكن أشير إلى مسألتين:

1. إذا ظهر بعض محل الفرض

بمعنى أن يخلع الجورب كله أو بعضه بعد الحدث والمسح، فهل تبطل طهارته؟

الأحوط للمرء أن يجدد طهارته إذا حصل له ذلك خروجا من الخلاف المعتبر في هذه المسألة، أما إذا أدخل يديه من تحت الشراب (الجورب) لحكة أو نحوها فلا بأس في ذلك ولا حرج، ولا يبطل المسح بذلك لأنه لم يخلعهما.

 

2. تمام المدة

بمعنى إذا تمت مدة المسح فهل تبطل الطهارة؟

مثال ذلك: رجل ابتدأت مدته في الساعة السابعة مساء يوم السبت، وفي يوم الأحد توضأ لصلاة المغرب الساعة السادسة، وبقي على طهارته فهل تبطل الطهارة بانتهاء المدة عند حلول الساعة السابعة؟

الجواب: لا، على الصحيح من قولي أهل العلم، لأن المدة لاستباحة المسح، بمعنى أنه لا يجوز أن يمسح بعد انتهاء المدة، لأن المسح موقت وقد انتهت المدة، أما هذا فهو باق على طهارته، ولم تنتقض بناقض مفسد للطهارة الثابتة.

 

المسألة السادسة: المسح على الجبيرة والخمار

 أولا: المسح على الجبيرة

المراد بالجبيرة: الساتر الذي يضعه المرء على شيء من جسده لغرض التداوي، كالجبس والشاش واللفافة ولاصق الجروح ونحو ذلك، فهذه يمسح عليها عند الطهارة.

وأنبه هنا إلى مسألتين:

المسألة الأولى: الفرق بين المسح على الجبيرة والمسح على الخفين

يختلف المسح على الجبيرة عن المسح على الخفين في عدة أمور:

1. أن المسح على الخفين مقدر بمدة معنية، أما المسح على الجبيرة فله أن يمسح عليها ما دامت الحاجة داعية إلى بقائها، ولو امتدت لأسابيع أو أشهر.

2. أن الجبيرة لا تختص بعضو معين، أما الخف فيختص بالرِّجل، ولذا لا يجوز المسح على ملبوس اليدين (القفازين)، وكذا لا يمسح على طلاء الأظافر الذي تتزين به المرأة (المناكير).

3. المسح على الخفين يُشترط فيه أن يلبسهما على طهارة بخلاف الجبيرة فلا تشترط لها الطهارة.

4. أن الجبيرة يمسح عليها في الحدث الأصغر والحدث الأكبر بخلاف الخف فلا يمسح عليه إلا في الوضوء.

5. أن الجبيرة تعمم بالمسح بخلاف الخف فيمسح أكثر أعلاه فقط.

 

· تنبيه:

ينبغي أن يعلم أن المسح على الجبيرة مشروط بالحاجة إليها، فلا يجوز المسح على شيء لا حاجة لوضعه، كما يقع التساهل من البعض في ترك هذه الحوائل، فتجده ينجبر الكسر ومع ذلك يترك الجبس على يده مثلا ويمسح عليها، أو يضع لاصقا للجرح، ويلتئم الجرح ثم يترك هذا اللاصق ويمسح عليه، وكل هذا لا يجوز.

 

وقد تدعو الحاجة لوضع بعض الحوائل لكن لا يشق نزعها، كما يضع بعض الناس ما يسمى بالمشد في اليد أو القدم أو الظهر لحاجة التداوي في المفاصل أو العضلات، لكن لا يشق عليهم نزعه، فهنا يجب عليهم نزعه عند الطهارة الصغرى أو الكبرى، وغسل ما تحته.

 

المسألة الثانية: صفة المسح على الجبيرة.

إن ما يصيب الإنسان من جرح ونحوه له حالان:

1. أن يكون مكشوفا

فالواجب:

1) غسله إن كان يغسل.

2) فإن تعذر الغسل؛ فيمسح بالماء.

3) فإن تعذر غسله ومسحه كما يحصل في بعض الحروق الشديدة؛ فيتيمم عنه.

وهذا التيمم يكون بعد الفراغ من الوضوء، ولو كان الجرح أو الحرق في الوجه أو اليد مثلا.

2. أن يكون الجرح مستورا بما يسوغ ستره به

فحكمه:

1) المسح على هذا الساتر.

2) فإن أضره المسح فيعدل إلى التيمم.

 

 ثانيا: المسح على الخمار

المراد بالخمار: ما تغطي به المرأة رأسها.

يجوز المسح عليه إذا كان هناك مشقَّة إما لبرودة الجوِّ، أو لمشقَّة النَّزع واللَّفّ لكونه مما يشد على الرأس، لما جاء عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تمسح على الخمار [رواه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 29 بسند حسن. ] .

ولأنه ملبوس معتاد للرأس يشق نزعه فأشبه العمامة.

 

وفي الختام .. فإني أوصي بالحرص على تعلم مسائل الدين، وتعليمها من حولنا من زوجة وأولاد وأصحاب، وإذا أشكل على المسلم شيء فليسع في رفع الجهل عنه بالسؤال أو القراءة أو غيرهما من وسائل التعلم، ولنعظم الشريعة في قلوبنا، فإن هذا من تعظيم الله تعالى، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

اللهم فقهنا في الدين، وزدنا من فضلك يا ذا الفضل العظيم

‫6 تعليقات

  1. فضيلة الدكتور
    سلام وتحية
    أشكر لكم هذا الجهد ، أعظم الله لكم الأجر؛ موقع وافٍ شافٍ ويعِد بخير أكثر. في جمال تنسيق وحسن إخراج.
    لا أنسى الثناء على وضوح الفتوى بالصور المعبرة، ولعل هذا مما اختصّ به موقعكم، كما لا يفوتني الإشارة المعجِبة بتتبع فضيلتكم لقضايا فقهية معاصرة ربما ليس من اليسير العثور على حكم لها في مواقع السادة العلماء عادةً.
    أقترح عليكم فتح نافذة للاشتراك في الموقع، أسوة بمواقع أخرى؛ ليكون المهتمّ متابعًا لعطائككم الفكري ونشاطكم الدعوي .
    واقبلوا، سيّدي الشيخ، فائق الاحترام وصادق الدعاء .

    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      حياك الله أخي الكريم
      نشكر لك تعليقك العاطر، وما تفضلت به من عبارات طيبة.
      وبخصوص ما تفضلت به؛ فنفيدك أنه سينفذ هذا الاقتراح قريبا إن شاء الله بإنشاء أيقونة خاصة بالقائمة البريدية، يتاح لكل زائر الاشتراك فيها.
      نسعد بمرورك
      والسلام عليكم

  2. جزاك الله خيرالجزاء يا د.خالد بن عبدالعزيز الباتلي إستفدت كثيرا والحمدلله أعانك الله .
    وأسأل الله أن يجعل هذا العلم الذي تنشره في ميزان حسناتك يوم القيامة.

اترك رداً على إدارة الموقع إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى