خطب الجمعةخطب نصية

المراقبة والوازع الديني

الحمد لله الذي سبحت بحمده الكائنات، وخضعت لعظمته وملكه سائرُ المخلوقات، العالمُ المحيطُ بالأسرار والخفيات، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماوات، ولا تعجزه حاجات السائلين على اختلاف اللغات وتنوع اللهجات وتعدد الحاجات.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله شهدت برسالته الآيات المعجزات، أما بعد

عباد الله .. اتقوا الله ..

إن من عظمة هذا الدين أن اعتنى بقلب العبد وعظَّم شأنه، وجعله ملكَ الأعضاء، ورغب في أعمال القلوب، وكم جاءت التشريعاتُ والنصوصُ التي تخاطب القلب، وتحرك الوجدان ودواخل المرء، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب [ رواه البخاري: (52), ومسلم: (1599). عن النعمان بن بشير رضي الله عنه .] ، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: (التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات-) [ رواه مسلم: (2564). عن أبي هريرة رضي الله عنه .] .

ومن جملة ما جاءت به الشريعة: إحياء مقام المراقبة في القلب.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة: 7]، وقال جل وعلا: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس: 61]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران: 5]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن [ رواه الترمذي: (1987), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (97). ] .

وفي حديث جبريل الطويل؛ قال: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فإنه يراك) [ رواه البخاري: (50), عن أبي هريرة رضي الله عنه, ورواه مسلم: (50). عن عمر رضي الله عنه .] .

قال ابن القيم رحمه الله: (المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه [ مدارج السالكين: (2/ 68) .] .

وقال ابن المبارك – رحمه الله – لرجل: راقب الله تعالى، فسأله عن تفسيره، فقال: كن أبدا كأنك ترى الله عز وجل [ الإحياء: (4/ 297).] .

وقال ذو النون المصري: كان العلماء يتواعظون بثلاث، ويكتب بعضهم إلى بعض: (من أحسن سريرته، أحسن الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته، أصلح الله أمر دنياه) [ سير أعلام النبلاء: (19/141).] .

إن أحوج ما يحتاجه كل واحد منا أن ينمي جانبَ المراقبة، ويحيي جذوةَ الخوف من الله، ويقوي الوازعَ الإيماني في قلبه.

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تَحسبـن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت *** ذنوبٌ على آثارهنّ ذنوب

 

كيف يقوى الوازعُ الديني في قلب كل مسلم؟ وكيف يحقق العبدُ مقامَ المراقبة؟ وكيف تتهذب القلوبُ ويصلح باطنُ المرء؟ يكون ذلك بأسباب فاستمعوا لها:

1. إحياء عظمة الله في القلب

الله تعالى – عباد الله – هو العظيم الجليل, الذي هو أكبر من كلّ شيء، وأعظم من كلّ شيء، هو أجلّ وأعلى، لا يقَع شيء في الكون من حركةٍ أو سكون، أو رفعٍ أو خفض، أو عزّ أو ذلّ، أو عطاءٍ أو منع؛ إلاّ بإذنه سبحانه، يفعَل ما يشاء, ولا يُمانَع ولا يُغالَب.

عن ابنِ عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيةَ ذاتَ يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَاٰمَةِ وَٱلسَّمَاوٰتُ مَطْوِياتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـٰنَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر: 67]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده، ويحركها، يقبلُ بها ويدبر، (يمجّد الربُ نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبّر، أنا الملك, أنا العزيز، أنا الكريم، فرجَف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخِرّنّ به) [ رواه أحمد: (5414), عن ابن عمر رضي الله عنه, وصححه الألباني في الصحيحة: (3196), (7/596), وقال: (وإسناده صحيح على شرط مسلم). وأصله في مسلم: (2788).] .

إنه الله العظيم الأعظم، كل يوم هو في شأن، يغفر ذنباً، ويفرّج هما، وينفس كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، يحيِ ميتاً، ويميت حياً، ويجيب داعياً، ويشفي مريضاً، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، سبحانه كل يوم هو في شأن.

هذه الأرضُ من بسطها؟ والسماءُ من رفعها؟، والجبال من أرساها؟، والطير من سواها؟، والنهر من أجراه؟، والليل من كساه؟ إنه الله الذي خلق كل شيء وسواه.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار) [ رواه ابن ماجة: (4175), وابن حبان: (5672), وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة.] .

يا من يرى مد البعوض جناحها *** في ظلمة الليل البهيم الأليَل
ويرى نياط عروقها فِي نَحرها *** والمخ في تلك العظام النحَّل
امنن علي بتوبة تمحو بها *** ما كان مني في الزّمان الأوّل

 

عن عبد الله بن دينار قال: خرجت مع ابن عمر إلى مكة، فوافينا راعي غنم، فقال له ابن عمر: بعني شاة من الغنم، قال: إني مملوك، قال: قل لسيدك: أكلها الذئب. قال: فأين الله عز وجل؟ قال ابن عمر: فأين الله!! وبكى، ثم اشتراه بعد، فأعتقه واشترى له الغنم.

ما أحوجنا إلى هذا الوازع الذي يردع النفوس عن شهواتها، ويكفها عن أهوائها {وأما من خاف مقام ربه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ المأوى} [النازعات: 41].

2. تعظيم الأمر والنهي، وهذا مترتب على ما سبق فمن عظم الله عظم أمره ونهيه، {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32]، {ما لكم لا ترجون لله وقارا}[نوح: 13].

وفي قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، قال أحدهم: اللهم كانت لي ابنة عم، كانت أحبَّ الناس إلى فأردتها على نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي. وهكذا عظَّم النهي، واستحضر مقام المراقبة.

3. النظر في أسماء الله تعالى وصفاته وتدبر معانيها، لاسيما الأسماءَ المتصلة بهذا المعنى كالشهيد والرقيب والسميع والبصير والخبير والحفيظ والعليم ونحوها.

أيها المسلم، المراقبة خلق عظيم يأتي من تعظيم أمر الله تعالى، ومعرفة أسمائه وصفاته، وإدراك سر ربوبيته وألوهيته عز وجل، وكثير من أولئك الذين يتجاوزون هذا الستر بينهم وبين الله تعالى لم يدركوا معاني هذه الأسماء والصفات.

ولكل صوت منه سمعٌ حاضر *** فالسرُ والإعلانُ مستويان
وهو البصير يرى دبيبَ النملة السـ *** ـوداء تحت الصخر والصوان
ويرى مجاري القوتِ في أعضائها *** ويرى بياضَ عروقها بعيان
ويرى خياناتِ العيون بلحظها *** ويرى كذاك تقلبَ الأجفان
وهو العليم أحاط علما بالذي *** في الكون من سـر ومن إعلان

 

4. الخوف من الله، وهذا مقام عظيم من مقامات الدين. فالخوف من الله، وخشيته في الخلوات والسر؛ له شأن عند رب العالمين، {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير{[الملك: 12]، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) [ رواه البخاري: (660), ومسلم: (1031). عن أبي هريرة رضي الله عنه .] .

خلا رجل بامرأة في ظلام الليل، فقال: (ما ثمَّ إلا أنا وأنت وهذه الكواكب في السماء، فقالت: هذه الكواكب فأين مكوكبها؟

قال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوفُ القلب أحرق مواضع الشهوات وطرد الدنيا.

الخوف من الله خير سبب لمحاربة الجريمة، فإذا خاف الناس من ربهم ردعهم ذلك عن الجرائم من القتل والسرقة والزنا وغيرها، فما الذي ردع هابيل أن يقتل أخاه سوى خوفه من ربه {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28].

5. تذكر الموت وما بعده، فكيف لا يراقب الله من يؤمن بأهوال عظام تنتظره من نزع الروح وسكرة الموت، وقبر ضيق مظلم، وبعث وحشر وحساب وأهوال يشيب منها الوليد،

ومن كان يتخفى عن الناس، وينسى اطلاع الله عليه فإن فضيحته يوم تشهد عليه أعضاؤه وجوارحه، قال تعالى:{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ}[فصلت: 23].

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

6. مجالسة الصالحين وسماع المواعظ وحضور مجالس الذكر التي تذكر بالله والدار الآخرة {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}[الذاريات: 55]، فحاجة القلب إلى هذه المجالس أشدُّ من حاجة السمك إلى الماء، فاحرصوا على حضورها والاستماع بقلب حاضر، ومن تلك المجالس خطبةُ الجمعة التي فرط فيها كثير من المسلمين وصار لا يحضر إلا بعد بدايتها، وهي وجبة أسبوعية يتزود منها المسلم بما ينفعه في أمور دينه.

أيها الإخوة .. إننا في زمن أحوج ما نكون فيه إلى زرع المراقبة وتنمية الوازع في قلوب النشء من قبل المربي أبا أو معلما أو غيرهما، الحاجة ماسةٌ في زمن الفضائيات وشبكة الأنترنت وثورة الاتصالات، ومتى ما غرست هذه المعاني في نفوس الصغار، وارتضعوها من صغرهم حماهم بإذن الله من أسباب الشر والفساد.

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدور في سكك المدينة ليلا، إذ سمع امرأةً تهيئ اللبن لتبيعه نهارًا، فخلطته بالماء، فقالت لها ابنتها: إن أمير المؤمنين عمر نهانا أن نخلط الماء باللبن، فقالت لها أمها: ولكن عمر لا يرانا الآن، فقالت الفتاة المؤمنة التي تراقب ربها: إن كان عمرُ لا يرانا؛ فإن رب عمرَ يرانا.

وإذا خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني

 

كيف انتشرت المعاصي بين الناس وخف وقعها في قلوبهم، يوم قل الوازع، وضعفت المراقبة .. الوازع الذي يردع الإنسان حين يجلس أمام الشاشة أن ينظر إلى ما حرم الله عليه، ويردعه حين يتصفح المواقع على الشبكة أن تزل به القدم.

زنى الزاني لأنه لم يعظم الله ولم يراقبه، وسرق السارق ..، وغش البائع في البيع ..، وفرط الموظف في أمانته ..، وتهاونت المرأة في حجابها ..، وتجرأنا على المعصية ..، وفرط في الصلاة يوم ضعفت مراقبة الله في النفوس. المراقبة سرّ بين الله تعالى وبين العبد، حينما يعظم العبد ربه في خلوته ويستحضر اطلاع الله عليه.

يقول أحد السلف: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.

لا تقلْ: هذه نظرة، هذه كلمة، هذه صغيرة وسهلة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.

وقال آخر: لا تجعل الله أهون الناظرين إليك.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سرّه حفظه الله في علانيته [ مدارج السالكين: (2/66).] .

اللهم إنا نسألك خوف العالمين بك، وعلم الخائفين منك، اللهم إنا نسألك خشيتك في السر والعلانية، اللهم اقسم لنا من خشيتك ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى