خطب الجمعةخطب صوتيةخطب نصية

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم

 

إن الحمد ..

كانت بعثة النبي صلى لله عليه وسلم رحمة للعالمين كلهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107][ قال ابن القيم في – جلاء الأفهام – (ص181): “وأصح القولين في قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) أنه على عمومه وفيه على هذا التقدير وجهان ..”. وهو مهم]. والرحمة صفة من صفات الله تعالى التي تكرر ذكرها في القرآن نحوا من مائتي مرة، والله هو الرحمن الرحيم.

ومن رحمة الله بعباده أن أرسل رسولا لجميع الناس، فمن آمن به سعد ونجا، ومن لم يؤمن خاب وخسر.

وَصَفَه ربُّه فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

وقد عرف المصطفى صلى لله عليه وسلم بنفسه، فقصر هذا التعريف وحصره بهذا الخلق:

عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال: (إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة)[رواه مسلم: (2599).].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (إنما أنا رحمة مهداة)[رواه الحاكم: (100), والدارمي : (17), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2345).].

والحديث عن رحمته صلى لله عليه وسلم وشفقته حديث طويل، لا تكاد تحصى شواهده، لكن لعلي أضرب لذلك أمثلة، وأعرض ذلك بحسب مظاهرها:

رحمته صلى لله عليه وسلم بأمته

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبي صلى لله عليه وسلم تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّى} [إبراهيم: 36]الآيَةَ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118], فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ « اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي ». وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ – وَرَبُّكَ أَعْلَمُ – فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى لله عليه وسلم بِمَا قَالَ – وَهُوَ أَعْلَمُ – فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوؤكَ [رواه مسلم: (202).].

وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى لله عليه وسلم: « مَثَلِى وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِى»[رواه مسلم: (2285).].

الجنادب: جمع جندب، وهو شيء يطير ويقفز، يشبه الجراد.

والحجز : جمع حجزة، وهي معقد الإزار والسراويل.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صلى لله عليه وسلم: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، وَنُؤْمِنُ بِكَ، قَالَ: “وَتَفْعَلُونَ؟ ” قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: “إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ، وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ”، قَالَ: “بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ”[رواه أحمد: (2166), وصححه الألباني في الصحيحة: (3388).].

رحمته صلى لله عليه وسلم بالمؤمنين (أمة الإجابة)

حينما يصف النبيَّ صلى لله عليه وسلم الواصفون فلن تجد أصدقَ وأبلغَ من وصف ربه له، فقد وصفه في كتابه فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].

عمت رحمته الجميع، الرجال والنساء، الكبار والصغار.

عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) [رواه الترمذي: (1919), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (5445).].

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى لله عليه وسلم: (أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَىَّ وَعَلَىَّ)[رواه مسلم: (867).].

وهذا المعنى موافق لقول الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6].

فقد بذل لهم من النصح، والشفقة، والرأفة، ما كان به أرحم الخلق، وأرأفهم، فرسول اللّه، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم، من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على يديه وبسببه.

فلذلك، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس، أو مراد أحد من الناس، مع مراد الرسول، أن يقدم مراد الرسول، وأن لا يعارض قول الرسول، بقول أحد، كائنًا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه [تفسير السعدي (الأحزاب: آية 6)].

ولقد أوضح النبي صلى لله عليه وسلم هذا المعنى بعبارة أخرى، فقال كما جاء عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى لله عليه وسلم قال: ” إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ” [رواه أحمد: (7368), وابن ماجه: (313), وحسنه الألباني في المشكاة: (347).].

وتعجز العبارات والكلمات عن وصف رحمة الوالد بولده وشفقته عليه.

وعن أبي سعيد رضي الله عنه فقال: انْتَظَرْنَا رَسُولَ اللهِ صلى لله عليه وسلم لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، قَالَ: فَجَاءَ فَصَلَّى بِنَا، ثُمَّ قَالَ: “خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ، وَسَقَمُ السَّقِيمِ، وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ، لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ”[رواه أبو داود: (422), وأحمد: (11015), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3216).].

ومع ما سبق من تلكم النصوص؛ فإن نصا يهز الكيان، ويحرك الوجدان، وهو ما رواه جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى لله عليه وسلم يَتَخَلَّفُ فِي الْمَسِيرِ فَيُزْجِى الضَّعِيفَ وَيُرْدِفُ وَيَدْعُو لَهُمْ [رواه أبو داود: (2639), والحاكم: (2541), وصححه الألباني في الصحيحة: (2120).].

فكم يحمل هذا الحديث على وجازته من معان ودلالات، وقيم وإشارات.

فمع كونه صلى لله عليه وسلم الرسول الموحى إليه، وهو رئيس الدولة، وقائد الجيش، إلا أن كان عطوفا رحيما رقيقا، فكان يتأخر في أثناء السير، ويتفقد أحوال أصحابه، ويقوم على حوائجهم، (فَيُزْجِي): أَيْ: يَسُوقُ (الضَّعِيفَ) ; أَيْ: يسوق له مَرْكوبهُ لِيُلْحِقَهُ بِالرِّفَاقِ ولا يتخلف عنهم. (وَيُرْدِفُ): مِنَ الْإِرْدَافِ; أَيْ: يُرْكِبُ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ مِنَ الْمُشَاةِ (وَيَدْعُو لَهُمْ) ; وهذا من نصحه ورحمته وشفقته.

 رحمته صلى لله عليه وسلم بأهله

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى لله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ خَادِمًا إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [رواه مسلم: (2328).].

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى لله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ – يعني الحداد – وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى لله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صلى لله عليه وسلم تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ: (يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ) ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صلى لله عليه وسلم: (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)[رواه البخاري: (1303), ومسلم: (2315).].

وكم تتجلى مشاعر الرحمة والشفقة في هذا الموقف الذي يجلي محبة النبي صلى لله عليه وسلم ورحمته لابنته زينب:

عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى لله عليه وسلم قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى لله عليه وسلم فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ لِخَدِيجَةَ، أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى عَلَيْهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صلى لله عليه وسلم، رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: “إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا، فَافْعَلُوا” فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَطْلَقُوهُ، وَرَدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا [رواه أبو داود: (2692), وأحمد: (26405), وحسنه الألباني في الإرواء: (1216).].

 رحمته صلى لله عليه وسلم بأصحابه

كان صلى لله عليه وسلم يحب أصحابه ويحنو عليهم، ويفيض عليهم رحمة وشفقة، ولذلك شواهد كثيرة منها:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ صلى لله عليه وسلم وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ)[رواه البخاري: (75), ومسلم: (2477).].

وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى لله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ: (ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ)[رواه البخاري: (628), ومسلم: (674).].

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى لله عليه وسلم: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللهِ صلى لله عليه وسلم لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ)[رواه البخاري: (1246).]. وكان ذلك في غزوة مؤتة سنة 8 هـ.

وعن أبي رِفَاعَةَ قال: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِي صلى لله عليه وسلم وهُوَ يَخْطُبُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ لاَ يَدْرِى مَا دِينُهُ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّه صلى لله عليه وسلم وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ فَأُتِي بِكُرْسِىٍ حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا ، قَالَ: فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى لله عليه وسلم ، وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا [رواه مسلم: (876).]

ومما تقدم من هذه النماذج والأمثلة يتجلى ما يحمله ذلك القلب الكبير من رحمة وشفقة على أمته، وكم كان حريصا عليها رفيقا بها.

وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ *** هـــــذان في الدنيـــــــــا هما الرُّحمـــــــاءُ

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

ولقد كان صلى لله عليه وسلم يخص برحمته من كان محتاجا إلى هذه الرحمة بمزيد اعتناء، كالنساء والمساكين والصغار:

عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى لله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو، ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة [رواه النسائي: (1414), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (5005).].

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى لله عليه وسلم فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى لله عليه وسلم: (أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ)[رواه البخاري: (5998), ومسلم: (2317) واللفظ له.].

وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِي صلى لله عليه وسلم يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِى الْعَاصِ وَهْىَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِي صلى لله عليه وسلم عَلَى عَاتِقِهِ فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَ [رواه مسلم: (543).]

عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيءٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ: (يَا أُمَّ فُلاَنٍ انْظُرِي أَي السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِىَ لَكِ حَاجَتَكِ)، فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا [رواه مسلم: (2326).].

 رحمته صلى لله عليه وسلم بغير الآدميين

كانت رحمة النبي صلى لله عليه وسلم ورقة قلبه واسعة، لم تقتصر على الآدمي العاقل، بل تجاوزت ذلك إلى غير الآدميين، ولذلك أمثلة وشواهد:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى لله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا، قَالَ: إِنْ شِئْتِ ، قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صلى لله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى لله عليه وسلم حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ، حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ: بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ [رواه البخاري: (2095).].

تأمل قوله: فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى لله عليه وسلم حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ.

وكان الحسن البصري إذا حدث بهذا بكى وقال: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله شوقا إليه بمكانه فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه [رواه ابن حبان: (6507), قال الألباني في الصحيحة (2174): صحيح لغيره.رواه ابن حبان: (6507), قال الألباني في الصحيحة (2174): صحيح لغيره.].

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : دَخَلَ رسول الله صلى لله عليه وسلم حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى لله عليه وسلم حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِي صلى لله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: (مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟)، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ : (أَفَلاَ تَتَّقِى اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَى إِلَىَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ)[رواه أبو داود: (2549), وصححه الألباني في الصحيحة: (20). وأخرجه مختصراً مسلم (342).].

ذفراه: أي مؤخر رأسه. وتدئبه، أي: تكده وتتعبه.

عباد الله .. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن لا يَرحم لا يَرحم، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي.

اللهم ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى