خطب الجمعةخطب نصية

الرجولة الحقة

إن الحمد لله ..

عباد الله: اتقوا الله، فهي وصيةُ الله إليكم، وهي خيرُ لباسٍ في الدنيا، وخيرُ زادٍ إلى الآخرة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ثم سواه وهداه، وجعله في أطوار يمر بها آية للناظرين.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67 ].

كان أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب في مجلسه يوما، فقال لمن حوله : (تمنّوا، فقال أحدهم: أتمنّى لو أنَّ هذه الدار مملوءةٌ ذهبًا فأُنفقهُ في سبيل الله، ثم قال عمر: تمنّوا، فقال آخر: أتمنّى لو أنَّها مملوءةٌ بأغلى الجواهر فأنفقهُا في سبيل الله ، فقال لهم: تمنّوا فقالوا: ما ندري يا أميرَ المؤمنين، ما نتمنى غير هذا، فقال عُمر: أما أنا فأتمنّى لو أنَّها مملوءة رجالاً مثلَ أبي عبيدةَ بنِ الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة وحذيفةَ بن اليمان، فاستعملهم في طاعة الله) [رواه أحمد في فضائل الصحابة: (1280), وانظر: حلية الأولياء: (1/ 101), صفوة الصفوة: (1/ 138).] .

لله درك يا أبا حفص، لقد كان الفاروق يدرك أن الغنيمة الثمينة في الرجال الأفذاذ أصحاب الكفاءات، فهؤلاء أنفعُ للأمةِ وأغلى من الذهبِ ونفيس الجواهر.

إن المسلمين اليوم يزيدون على ألف مليون، لكنهم غثاء كغثاء السيل

والناسُ أَلْفٌ منهمُ كواحدٍ *** وواحدُ كالألفِ إِن أمرٌ عَنا

الرجل الكفء هو العملة النادرة، جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة) [رواه البخاري: (6498), ومسلم: (2547). عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه .] .

الرجولة الحقة رأيٌ سديد، وكلمة طيبة، ومروءة وشهامة وتعاون.

الرجولة تحمل المسؤولية في الدفاع عن الخير وأهله، وشجاعة في النصح لله، قال تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يامُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النَّـاصِحِينَ} [القصص:20 ].

الرجولة قوة في القول، وصدع بالحق، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالبَيّنَـاتِ مِن رَّبّكُمْ} [غافر: 28 ].

الرجولة صمود أمام الملهيات، واستعلاء على المغريات، في القيام بعبادة رب الأرض والسماوات، قال تعالى: {في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ} [النور: 37].

الرجل الحق يصدق في عهده، ويفي بوعده، ويثبت على الطريق، دون مراوغة أو تراجع، قال تعالى: {منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].

ولمكانة الرجال جعل الله لهم القوامة تشريفا وتفضيلا، قَالَ سُبحَانَهُ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِن أَموَالِهِم} [النساء: 34]، فلأنهم رجال بمعنى الرجولة جعل لهم القِيَامُ عَلَى مَن وَلاَّهُمُ اللهُ أَمرَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ، وَحُسنُ تَوجِيهِهِم وَالاجتِهَادُ في تَربِيَتِهِم.

فكم من ضيع وفرط في الأمانة، فلم يكن رجلا بمعنى الرجولة، ولا يتأهل مثله للقوامة في البيت.

ليست الرجولة هي الذكورة، وليست الرجولة فيمن مَن طَالَ شَارِبُهُ، أَو تَقَدَّمَت سِنُّهُ، أَو بُسِطَ لَهُ في جِسمِهِ وَطالَت قَامَتُهُ، أَو فُتِلَت عَضَلاتُهُ وَقَوِيَت بُنيَتُهُ، ولكنها في الدين المتين، والخلق الرَّصِينِ، والعمل الجاد والتَفكِيرِ الرَّزِينِ.

لقد قال الله عن طائفة من المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]. ومع هذا فقد ذمهم بالبلادة والجبن: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4]. وجاء في الحديث الصحيح: (يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة)، واقرءوا إن شئتم قول المولى تبارك وتعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 105] [رواه البخاري: (4729), ومسلم: (2785). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه .] .

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلا في أعلى مقامات الرجولة، مع صغر حجمه، فقد انكشفت ساقاه ذات يوم بين الصحابة، فإذا هما دقيقتان هزيلتان فضحك بعض الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد) [رواه أحمد: (3991), وحسنه الألباني في الصحيحة: (2750).] .

الرجل الكفء الصالح هو الركيزة والمحور.

اشتر ما شئت من السلاح والذخيرة ، لن تؤثر الأسلحة إلا بالرجل المحارب.

مهما اجتهد الخبراء في صياغة مناهج التعليم والتربية، لن يقوم المنهج ويؤتي ثمرته إلا بالرجل الذي يدرِّسه.

مهما شيد من المكاتب، وجهزت بأحدث الأجهزة والتقنيات، لن تنجز الأعمال إلا بالرجل الكفء.

هذا لسان الواقع والتجربة .. {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]. .. {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].

إن رجالا كانوا بأمة خلدهم التاريخ كما فعل الصدِّيقُ يومَ الردّةِ، وكما فعلَ عُمرُ بن عبد العزيز في عدله وصلاحه، وكما فعل أحمد بن حنبل يوم فتنة خلقِ القرآن، وكما فعل صلاح الدين حين استرد بيت المقدس، وكما فعل ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب في نشر التوحيد وبيان الدين الصحيح.

أيها الإخوة .. كان الشاب قديما وإلى وقت قريب إذا وصل البلوغ صار رجلا يعتمد عليه يتحمل المسؤوليات، ويقوم بالمهمات، أما شباب اليوم فيصل كثير منهم الجامعة ولا يزال يعيش حياة المراهقة، لم يتأهل لمعالي الأمور، فهمومه بين آخر الأجهزة والجوالات، ومتابعة الدوري والمباريات، والجديد في موديلات السيارات، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، فماتت الهمم، وضعفت الرجولة.

أصبحت ترى الشاب تجاوز العشرين لكنه فارغ خائر، لا يتحمل ولا يحسن شراء أغراض المنزل من السوق، فضلا عن مهمات الأمور وكبارها.

أسامة بن زيد شاب في مقتبل العمر عمره 18 سنة يقود جيشا فيه أبو بكر وعمر، وهذه سن شاب في آخر المرحلة الثانوية اليوم.

لما طلب عمرو بن العاص رضي الله عنه المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتح مصر كتب إليه: أما بعد: (فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد) [انظر: كنز العمال: (14221).] .

أيها الشباب .. نريدكم رجالا بمعنى الرجولة في الاعتزاز بالدين، والثبات عليه، والجد والجلد في الأمور، وترك الدعة والكسل.

يا معشر الشباب: الرجولة أفعال لا أشكال، مخابرُ لا مناظر، فكم من شيخ في السبعين وقلبه في سن السابعة، يفرح بالتافه، ويتعلق بالقشور.

وكم من غلام صغير العمر، ولكنك ترى مخايل النجابة والرجولة في قوله وعمله، وفكره وخلقه.

مر الفاروق رضي الله عنه على ثلة من الصبيان يلعبون في أحد طرق المدينة فهربوا كلهم، إلا صبي واحد، وقف ثابتاً في مكانه، فسأله: لِمَ لَمْ تهرب مع أصحابك ؟ فقال: (يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، وليست الطريق ضيقةً فأوسعها لك) [انظر: مواسم العمر لابن الجوزي: (41).] .

ودخل غلام على هشام بن عبد الملك الأموي ليتحدث باسم قومه، فقال له الخليفة: ليتقدم من هو أسن منك يا غلام، فقال: (يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة، المرء بأصغريه قلبه ولسانه).

أين غلام الأخدود الذي أرعب الملك، وكان سببا في إيمان قومه.

واليوم يظهر غلام آخر لكنه من بلاد الشام الأبية المباركة، وذلك فيما انتشر من مقطع يظهر فيه غلام صغير قد أخذه الجنود وضربوه، فجاءوا بصورة زعيمهم الخبيث، وقالوا: اسجد له، فأبى وبصق على صورة الرئيس. الله أكبر .. هذه الرجولة والعزة والكرامة.

أين الرجولة فيمن يتمايل في حركاته، ويطيل شعره كالبنت، ويضع القلادة على رقبته، ويخرج في ملابس مخجلة، بل قد يرقص كما ترقص النساء؟.

مثل هؤلاء أيرجى منهم نفع لأنفسهم أو لأهليهم أو لأوطانهم؟!.

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

إن العجب العجاب الذي يعصر القلب أسى أن تنجحَ مشاريعُ الأعداءِ في تشتيتِ هممِ رجال الأمّة، وفي تسطيحِ اهتماماتِ شبابها، فلا يعرفون قيمةَ ذواتهم، ولا يدركون أدوارهم، ولا يُقدِّرون ما وهبهم اللهُ من طاقات وقدرات، فتضيعُ حياتُهم في الركضِ وراءَ المصالحِ الشخصية، أو خلفَ الشهوات الدنِيّة.

إن في كلِ فردٍ منَّا خصائصَ وصفات، ومواهب وقدرات، لو أخدمها للإسلامِ لتغيّرَ طعم الحياةِ في حسه، ولشعرَ بعلو قيمته وقدره، والمهم الذي يسترعي الانتباه أن الإسلام لا يريدُكَ أن تُغيّر مُيُولَك أو تلغي صفاتِك أو أن تمسخ شخصيتك، وإنَّما يُريدُك أن توجّه طاقاتك الوجهةَ الصحيحة، وتزداد بها قُربًا من ربك.

قد هيئوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

اللهم ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى