خطب الجمعةخطب نصية

الاعتبار والتفكر

الحمد لله مصرف الأقدار، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار، لا تدركه الأبصارُ وهو يدرك الأبصار، أتقن تصريفَ الأمور وكلُّ شيء عنده بمقدار، قد أرانا ما فيه تذكرةٌ وعبرة لأولي الأبصار، وخص بالفضل أصحابَ النظر والعقول، وخاطبهم فقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الواحد القهار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المختار .. اتقوا الله ..

 

عباد الله .. الكون كتابٌ مفتوح، وميدان فسيح، فيه عبرٌ فأين المعتبر؟ وفيه تذكرةٌ فأين المدكر؟

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]. {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}[الرعد: 2]، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]، ما أكثر العبر، وما أقل المعتبر!.

الله جلَّ في علاه ملكُ الملوك، لا ينازَعُ في ملكه، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن: 29]؛ يكشف كربا، ويجيب مضطرا، ويغفر ذنبا، ويجيب داعيا، ويعطي سائلا، ويفك عانيا، ويغيث ملهوفا، ويشفي سقيما، ويرفع قوما، ويضع آخرين.

ما في الوجود سواك ربٌّ يُعبَدُ *** كلا ولا مَولى هناك فيُقصَدُ
يا من له عَنَتِ الوجوهُ بأسرِها *** رَهَباً وكلُّ الكائناتِ تُوَحِّدُ

 

عباد الله .. إن من خير ما شُغلت به الأفكارُ والأعمارُ: التفكرَ والاعتبار، فالحياة مليئةٌ بالعبر، ومن جال بفكره عرف ربه، فزاد يقينُه وعظم إيمانُه.

إن من أعظم ما يزيد الإيمانَ في القلب، أن يُحرَّكَ القلبُ بالتدبر والتفكر، يتدبرُ آياتِ الله المتلوة، ويتفكرُ في آياته المنظورة، وهي مخلوقاتُه في الكون.

قال عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ رحمه الله: (سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ وَلَا اثْنَيْنِ وَلَا ثَلَاثَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: إِنَّ ضِيَاءَ الْإِيمَانِ، أَوْ نُورَ الْإِيمَانِ، التَّفَكُّرُ) [الدر المنثور (2/ 409).] .

التفكر هو التأمل، وإعمال الفكر في الشيء.

ويجتمع في التفكر: إعمالُ العقل، وإحياءُ القلب.

وهو عبادةٌ عظيمة تتطلب صفاءَ النفس، وحضورَ القلب، والخلوةَ عن الشواغل، قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: (التمس وجودَ الفكر في مواطن الخلوات) [ الحلية: (9/ 287), وهي جملة من أثر طويل. ]

ولذلك قيل:

إذا المرء كانت له فكرةٌ *** ففي كل شيءٍ له عبرة

 

حينما ينشغل القلب بالتفكر في آيات الله ومخلوقاته؛ تنبعث الجوارح بالعمل، ويزداد الإيمان واليقين، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: 191]

قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (مَا طَالَتْ فِكْرَةُ امْرِئٍ قَطُّ إِلَّا فَهِمَ، وَلَا فَهِمَ امْرُؤٌ قَطُّ إِلَّا عَلِمَ، وَلَا عَلِمَ امْرُؤٌ قَطُّ إِلَّا عَمِل) [رواه أبو الشيخ في العظمة (56).]

لقد دخل أقوامٌ من الكفار في دين الله بسبب نظرهم في شيء من أسرار الخلق وبديع الصنع.

ما رأى العارفون بالله شيئًا من الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله بجنسه في الآخرة، وعلموا أن ذلك دليلٌ يعرفهم بخالقهم جل جلاله وتقدست أسماؤه. فالمؤمن مشغول بالتفكر والاعتبار، والمنافق مشغولٌ بالحرص والجمع.

قال خليفة العبدي: ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خَلَقَ ربُّهم لهم حتى أيقنت قلوبهم، وحتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته.

وصف ربنا تعالى الكفارَ في محكم كتابه فقال: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي}[الكهف: 101]، قال الإمام الطبري: “الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله، فيتفكَّرون فيها ولا يتأمَّلون حججَه، فيعتبرون بها، فيتذكرون وينيبون إلى توحيد الله، وينقادون لأمره ونهيه” [ تفسير الطبري: (18/ 123).] .

فالتفكرُ والاعتبار في آيات الله علامةٌ فارقة بين المؤمن والكافر.

وعن محمد بن واسع رحمه الله أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر رضي الله عنه, فسألها عن عبادة أبى ذر فقالت: “كان نهارَه أجمع في ناحية البيت يتفكر” [إحياء علوم الدين: (4/ 424).] .

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال: (تفكرُ ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة) [رواه البيهقي في الشعب: (117).] .

وعن الحسن البصري قال: (الفكر مرآةٌ تريك حسناتك وسيئاتك) [حلية الأولياء: (8/109)، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة: (13).] .

وقيل لإبراهيم ابن أدهم إنك تطيل الفكرة, فقال: (الفكرة مخ العقل) [ الحلية: (8/108).] .

وكان سفيان بن عيينة كثيراً ما يتمثل بقول القائل:

إذا المرء كانت له فكرةٌ *** ففي كل شيء له عبرة [الحلية: (7/ 306).]

قال ابن رجب: (كان السلف يفضلون التفكرَ عن نوافل العبادة، وكان أكثر عمل أبي الدرداء الاعتبار والتفكر) [ استنشاق نسيم الأنس: (49).] .

وقال الحسن رحمه الله: (من لم يكن كلامه حكمةً فهو لغو, ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو, ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو) [إحياء علوم الدين: (4/ 424).] .

وقال الحسن أيضا في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الأعراف: 146]؛ أي: “أمنع قلوبَهم التفكرَ في أمري” [ إحياء علوم الدين: (4/ 424)؛ ورواه أبو الشيخ في العظمة: (11), عن محمد بن يوسف الفريابي رحمه الله.] .

قلوبُ العارفين لها عيونٌ *** ترى ما لا يراهُ الناظرونَ

وكان لقمان الحكيم يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك! فلو جلست مع الناس كان آنسَ لك, فيقول لقمان: “إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة” [المرجع السابق: (4/ 425).] .

وقال عمر بن عبد العزيز: (الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة) [ إحياء علوم الدين: (4/ 425) .] .

وقال بِشْر بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي: (لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل) [ المرجع السابق: (4/ 425) .] .

وكان أبو شريح يمشي يوما إذ جلس فتقنع بكسائه، فجعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: (تفكرت في ذهاب عمري, وقلة عملي, واقتراب أجلي).

التفكر – أيها المسلمون- يورث المعرفة، ويزيد الإيمان، ويجلب المحبةَ واليقين، ويورث الطمأنينة والسكينة، ويدفع للطاعة، ويحجز عن المعصية، ويعمر القلب بالخشية والحكمة.

أهل الاعتبار هم أهل الخشية لله، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 21].

أهل الاعتبار هم أصحاب العقول الراجحة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف: 111].

أهل الاعتبار هم أصحاب البصائر الحية {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}[النازعات: 21].

 

عباد الله .. ولعلنا نجيل النظر ونقلب الفكر في شيء مما يستحق التفكر والاعتبار:

«فصول السنة» في تواليها تذكرُ بالآخرة فشدةُ حرِّ الصيف يذكرُ بحرِّ جهنم، وهو من سمومها.

وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم وهو من زمهريرها.

و«الخريف» يكمل فيه اجتناء الثمرات، وكذلك اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة.

وأما «الربيع» فهو أطيب فصول السنة، وهو يذكر بنعيم الجنة وطيب عيشها.

كان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين والفواكه إلى السوق فيقف وينظر ويعتبر ويسأل الله الجنة.

وكان بعضهم يخرجون إلى الحدادين ينظرون إلى ما يصنعون بالحديد في بيت النار فيبكون، ويتعوذون بالله من النار.

وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار؛ فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة، ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. قاله ابن مسعود رضي الله عنه وتلا قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24].

 

عباد الله .. لما كانت نفسُ الإنسان أقربَ الأشياء إليه؛ دعاه خالقُه وبارئه ومصوره إلى التبصر والتفكر في نفسه، فقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، فإذا تفكر في نفسه استنارت له آياتُ الربوبية، وسطعت له أنوارُ اليقين، واضمحلت عنه غمراتُ الشك والريب، فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثارَ التدبير فيه قائمات، وأدلةَ التوحيد على ربه ناطقات، شاهدةٌ لمدبره، دالةٌ عليه، مرشدةٌ إليه، إذ يجده مكونًا من قَطرة ماءٍ: لحومًا منضدة، وعظامًا مركبة، وأوصالاً متعددة، مأسورة مشددة بحبال العروق والأعصاب، جمعت بجلد متين، مشتملاً على ثلاثمائة وستين مفصلاً، ما بين كبير وصغير، وثخين ودقيق، وشد هذه الأوصال بأعصاب للاتصال والانفصال، والقبض والبسط، والمد والضم، والصنائع والكتابة. وجعل فيه عشرةَ أبواب: فبابان للسمع وبابان للبصر، وبابان للشم، وبابان للطعام والشراب والتنفس، وبابان لخروج الفضلات التي يؤذيه احتباسها.

بدأ خلقَ الإنسان من سلالةٍ من طين، ثم جعله نطفةً في قرار مكين، ثم خلق النطفةَ علقةً سوداءَ للناظرين، ثم خلق العلقةَ مضغةً وهي قطعةُ لحمٍ بقدر أكلةِ الماضغين، ثم خلق المضغةَ عظاماً مختلفةَ المقاديرِ والأشكال والمنافع أساساً يقوم عليه هذا البناء المتين، ثم كسا العظامَ لحماً هو لها كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين.

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

من أراد الاعتبار فليفرغ قلبه، ويخلو مع نفسه، ويجول بخاطره في عالم الخلق والمخلوقات.

الشمسُ والبدرُ من آياتِ قدرتِهِ *** والبرُّ والبحرُ فيضٌ من عطاياهُ
الطيرُ سبَّحهُ والوحشُ مجَّدهُ *** والموجُ كبَّره والحوتُ ناجاهُ
والنملُ تحت الصخورِ الصمِّ قدَّسهُ *** والنحلُ يهتفُ حمداً في خلاياه
والناس يعصونه جهراً فيستُرُهم *** والعبدُ ينسى وربي ليس ينساهُ

فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما تشاهدونه على ما غاب عنكم من نعيم أو عذاب، وفي ذلك آية على وجود الخالق وعظمته، واعلموا أن النفس تحتاج إلى تربية ومجاهدة، {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}[العنكبوت: 69].

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (يحشرُ الناسُ يومَ القيامةِ أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، فمن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن أطعم لله أطعمه الله، ومن سقى لله سقاه الله، ومن عفا لله أعفاه الله) [رواه ابن أبي الدنيا في اصطناع المعروف: (83) ، ورواه أيضاً في قضاء الحوائج: (30) .] .

اللهم ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى