خطب الجمعةخطب نصيةمواسم فاضلة

أحكام مهمة في رمضان

إن الحمد لله ..

عباد الله .. إن أيامَكم هذه عزيزةٌ مباركة، فرض الله صيامها وجعل ذلك ركنا من أركان الإسلام الخمسة، وضبط الشرع هذه العبادة بأحكام وضوابط، ولئن كان الجميع يعلم حكم الصوم ومعناه العام فإن الكثير من المسلمين تخفى عليه بعض أحكامه المهمة، وربما ترك بعض الناس ما يلزمه أو شدد على نفسه فألزمها بما ليس بلازم، ومن هنا تأتي فضيلة العلم الشرعي الذي ينير الطريقَ لصاحبه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ولذا فإنني أنبه وأذكر ببعض المسائل التي تدعو الحاجة إلى بيانها، ويكثر السؤال عنها، فمن ذلك:

أول: يسأل كثير من الناس عن حكم كبير السن في الصيام، والجواب أن كبير السن – رجلا كان أو امرأة – لا يخلو من حالين:

 أ) أن يكون فقد عقلَه وإدراكه كما يسميه البعض: (المهذري)، فهذا لا شيء عليه، وقد سقط عنه التكليف، لا صيام ولا إطعام.

ب) أن يكون عقله معه، وهذا له حالان:

 1- أن يستطيع الصوم، فيجب عليه لأنه مكلف قادر.

2- أن لا يستطيع الصوم، بسبب كبره، فعليه الفدية. قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليست بمنسوخة، وهو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا)([1]).

وصفة الإطعام بأحد طريقين:

1- التمليك، بأن يعطي المسكين مدا من البر أو الأرز غير مطبوخ، أو نصف صاع من غيره، ويجعل معه ما يؤدمه من اللحم أو غيره.

2- الإطعام بالإباحة، بأن يصنع طعاما يغدي به المساكين أو يعشيهم، وهذه غير مقدرة، فيرجع فيها إلى العرف، وما يحصل به الإطعام، كما نقل عن أنس
[رضي الله عنه] (أنه ضعف قبل موته فصنع جفنة ثريد، ودعا ثلاثين مسكينًا فأشبعهم)([2]).

المسألة الثانية: متى يباح الفطر لعذر المرض؟ اعلموا أن المريض له أحوال:

ألا يتأثر بالصوم، كالزكام اليسير، والصداع اليسير، فلا يحل له الفطر.

أن يشق عليه الصوم ولا يضره، فيكره له الصوم، ويسن له الفطر، أخذا بالرخصة.

أن يضره الصوم، فيحرم عليه الصوم، لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء : 29].

ثم إن المريض الذي أفطر في رمضان بسبب المرض، لا يخلو مرضُه من أحد نوعين:  

أن يكون مما يرجى شفاؤه، فهذا يَنتظر صاحبُه حتى يشفى ثم يقضي ما عليه، ولو قُدِّر أنه توفي في مرضه قبل قضاء ما عليه فلا شيء عليه، وليس على أهله شيء لا صيام ولا إطعام، لأنه معذور غير مفرط.

أن يكون المرض مما لا يرجى شفاؤه عادة بكلام أهل الخبرة، ولا يستطيع معه الصوم، فهذا حكمه حكم الشيخ الكبير يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا كما سبق.

المسألة الثالثة: أحوال المسافر.

يعلم الجميع أن المسافر يجوز له الفطر في نهار رمضان، لكن يسأل الكثير عن الأفضل الصوم أو الفطر، وجوابا على هذا السؤال يقال: إن المسافر له أحوال:

أن يتساوى الصوم والفطر، كما هو الحال في غالب الأسفار في هذا الزمن، فالصوم أفضل، لفعله
[صلى الله عليه وسلم]، عن أبي الدرداء [رضي الله عنه] قال: (خرجنا مع النبي [صلى
الله عليه وسلم] في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] وعبد الله بن رواحة)([3]).

ولأنه أسرع في إبراء الذمة. وهو أسهل على المكلف أن يصوم مع الناس. وفيه إدراك الزمن الفاضل حيث يصوم في رمضان.

أن يكون الفطرُ أرفقَ به، فالفطر أفضل.

أن يضره الصوم أو يشقَّ عليه مشقةً غير محتملة، فيحرم الصوم. لما جاء أن النبي
[صلى الله عليه وسلم] كان في سفر فرأى زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: “ليس من البر الصوم في السفر”([4]).

وينبغي أن يعلم أن المسافر لا يترخص بالفطر إلا إذا فارق عامر البلد، بمعنى أن يجاوزها ويخرج من بنيانها، لأنه لا يوصف بكونه مسافرًا حتى يخرج من البلد، وما دام في البلد فله أحكام المقيم.

المسألة الرابعة: التنبيه على بعض أحكام المفطرات، فمن ذلك:

الكحل، فلا يفطر استعماله ولو وصل طعم الكحل إلى الحلق.

القطرة. فإن كانت في العين والأذن: فلا تفطر، ولو وجد طعمها في حلقه؛ لأن

العين والأذن ليستا منفذًا للأكل والشرب.

وأما الأنف؛ فلا تجوز القطرة في الأنف؛ لأنه منفذ، وعليه القضاء إن وجد طعمها في حلقه.

الاحتقان وهو إدخال الأدوية عن طريق الدبر (التحاميل)، فهذا لا يفطر، لأنه ليس

أكلا ولا شربا ولا بمعناهما، وهو اختيار ابن تيمية وبعض المحققين.

استعمال الفرشاة والمعجون، فهذا جائز للصائم، والأولى تركه وتأجيله إلى الليل، وعند استعمالها يتحرز من ذهاب شيء إلى جوفه، فإن غلبه شيء بدون قصد فلا قضاء عليه.

حقن الإبر. والإبر العلاجية قسمان:

أ. الإبر المغذية التي يكتفى بها عن الأكل والشرب، فإذا تناولها الصائم أفطر؛ لأنها وإن لم تكن أكلاً وشرباً حقيقة فإنها بمعناها، فثبت لها حكمها.

ب. الإبر غير المغذية، أي لا يستغنى بها عن الأكل والشرب، فهذه لا تفطر، سواء تناولها عن طريق العضلات أو عن طريق العروق، حتى ولو وجد حرارتها في حلقه؛ لأنها ليست أكلاً ولا شربًا، ولا بمعناهما، فلا يثبت لها حكمهما، ومن ذلك إبر الأنسولين لمرضى السكر.

خروج الدم. فأما دم الحيض والنفاس من المرأة فيفسد الصوم ويلزمها قضاء تلك

الأيام، وأما ما عداه فإن خروج الدم من الصائم لا يخلو من حالين:

أ) أن يكون خروج الدم بعذر كإكراه أو نسيان أو جهل، فهذه لا يفطر بها، ولو كثر الدم، كالرعاف من الأنف، ودم الجرح بسبب حادث، أو عند التقطيع بالسكين، ونحو ذلك.  

ب) أن يكون خروج الدم بغير عذر. وهذه لا تخلو من حالين:

1- الحجامة، فيفطر بها مطلقًا، لقوله [صلى الله عليه وسلم] (أفطر الحاجم والمحجوم)([5]).

2- غير الحجامة. فإن كان كثيرًا يؤثر على البدن تأثير الحجامة، فتلحق بها. مثل إرعاف الإنسان نفسه، أو التبرع بالدم.

وأما إن كان الدم الخارج قليلاً، فلا يؤثر مثل: قلع السن، وتحليل الدم، ونحو ذلك.

ولا بأس بعلاج الأسنان أثناء الصيام بعمل التنظيف أو الحشو أو خلع أحد الأسنان، وعليه أن يتحفظ من بلع شيء من الدواء أو الدم الذي يخرج أثناء المعالجة.

بخاخ الربو، فلا يفطر، ولا بأس أن يستعمله الصائم.

شم الطيب، فلا بأس باستعمال الروائع العطرية في نهار رمضان، وشم الطيب سواءً

كان دهنًا أم بخورًا؛ لكن إذا كان بخورًا فإنه لا يستنشق دخانه؛ لأن الدخان له جرم ينفذ إلى الجوف، وأما مجرد شمه دون أن يستنشقه حتى يصل إلى جوفه فلا بأس به.  

بلغ النخامة، فهذه لا تفطر سواء وصلت إلى الفم ثم ابتلعها، أو نزلت من الدماغ إلى

الجوف مباشرة، لكن يحرم بلعها لما فيه من الاستقذار والضرر، وعلى المرء أن يخرجها من فمه، سواءً كان صائمًا أم غير صائم.    

بارك الله ..

 

الخطبة الثانية:

ماذا نفعل في رمضان؟ الجواب: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فإن أردت أن تعلم ماذا كان
[صلى الله عليه وسلم] يفعل في رمضان فاستمع إلى ابن القيم رحمه الله تعالى يقول : “وكان من هديه
[صلى الله عليه وسلم] في شهر رمضان الإكثارُ من أنواع العبادات، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يدارسه القرآن الكريم في رمضان، وكان إذا لقيه جبريلُ أجودَ بالخير من الريح المرسلة، وكان أجودَ الناس وأجود ما يكون في رمضان ([6])، يكثرُ فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن الكريم، والصلاة والذكر والاعتكاف. وكان يخصُّ رمضان من العبادة بما لا يخصُّ غيره به من الشهور”([7]). أ.هـ

عباد الله .. سارعوا وسابقوا فنحن في أول المضمار، جدوا واجتهدوا وأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن المحروم من حرم خير هذا الشهر، ومن تعظيم هذا الشهر الحرص على تكميل الصيام والقيام والسؤال عما أشكل من مسائل الدين.

ذكر ابنُ أبي مريم رحمه الله عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: (إذا حضر شهر رمضان فانبسِطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحةٌ أفضل من ألف تسبيحة في غيره)([8]).

وقال الحسن البصري رحمه الله: (إن الله جعل رمضانَ مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبقَ قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعجبُ من اللاّعب الضاحك في اليوم الذي يفوزُ فيه المحسنون، ويخسرُ فيه المبطلون)([9]).

الغنيمةَ الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوضٌ و لا لها قيمة، المبادرةَ المبادرة بالعمل، والعجلَ العجل قبل هجومِ الأجل، قبل أن يندم المفرطُ على ما فعل، قبل أن يسألَ الرجعةَ فيعمل صالحا فلا يجابُ إلى ما سأل، قبل أن يحول الموتُ بين المؤمِّل و بلوغ الأمل، قبل أن يصير المرء مرتهنا في حفرته بما قدم من عمل.

(يا رجال الليل جدوا  ***  رب داع لا يرد )

( ما يقوم الليل إلا  ***  من له عزم وجد )

( ليس شيء كصلاة  ***  الليل للقبر يعد )

يا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعتُه التسويفُ والتفريط وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآنَ وشهرَ رمضان كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟!.

اللهم أيقِظْنا من رقدات الغفلة , ووفقنا للتزود من التقوى قبل النُّقْلة , وارزقنا اغتنام الأوقات في ذي المهلة، اللهم نبرأ من حولنا وطولنا، فلا حول ولا قوة لنا إلا بك، الله إنا نسألك العون والتوفيق لما فيه رضاك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ..

 

 

([1]) رواه البخاري: (4505).

([2]) رواه الدارقطني في سننه (2390), وصحح سنده الألباني في الإرواء (4/ 21)، وعلقه البخاري بنحوه.

([3]) رواه البخاري: (1945), ومسلم: (1122).

([4]) رواه البخاري, واللفظ له: (1946), ومسلم: (1115). عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا.

([5]) رواه البخاري معلقا (3/33), ووصله أبو داود (2367), وابن ماجه (1680), وغيرهما, وصححه الألباني في صحيح الجامع (1136). وفي الحديث بحث طويل من جهة الرواية والدراية.

([6]) رواه البخاري: (6), ومسلم: (2308).

([7]) زاد المعاد: (2/13).

([8]) لطائف المعارف: (151).

([9]) المرجع السابق: (209).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى