خطب الجمعةخطب نصية

آداب الأكل والشرب [2]

إن الحمد لله …

اتقوا الله ..

فإن الإسلام دينُ الأدب والخلق، وقد سبق الحديثُ عن القسم الأول من آداب الأكل والشرب، وهي الآداب التي تكون قبل تناول الطعام، ونصل الحديثَ اليوم بالقسم الثاني: الآداب المشروعة أثناء الأكل والشرب. فمنها:

الأكل والشرب باليمين

وجاء في ذلك أحاديثُ منها:

عن ابن عمر أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله)([1]).

وعن سلمة بن الأكوع أن رجلا أكل عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بشماله فقال
[صلى الله عليه وسلم]: “كل بيمينك” قال: لا أستطيع. قال: “لا استطعت، ما منعه إلا الكبر” قال: فما رفعها إلى فيه ([2]).

فهذا الرجل عرف النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه متكبر، فدعا عليه بأن يصيبه الله تعالى بأمر لا يستطيع معه رفع يده اليمنى إلى فمه، فأجاب الله دعوته فلم يرفعها إلى فمه بعد ذلك، صارت والعياذ بالله قائمة كالعصا، لا يستطيع رفعها.

وهذا يدل على أن الأكل والشرب باليمين واجب، ويجوز الأكل والشرب باليسرى عند وجود العذر في اليمنى.

ومن المؤسف أن نرى المخالفة من بعض المسلمين هداهم الله تبعية وضعفا، فتجد أحدهم يتبع نظامَ المائدةِ الغربية فيمسكُ السكينَ بيده اليمنى، والشوكةَ بيده اليسرى، فيقطع الطعام باليمنى، ويأكل باليسرى، ويرى ذلك تحضرا وجريا على قواعد الإتيكيت، ويأنف أن يخالف فيمسكَ الشوكةَ باليمنى حتى لا يوصفَ بالتخلفِ والجهل.

ويستحب أن يكون الأكلُ بثلاثة أصابع، ولا يزيد إلا إذا احتاج إلى ذلك، لحديث كعب ابن مالك
[رضي الله عنه] قال: (كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يأكل بثلاث أصابع، ويلعق يده قبل أن يمسحها)([3]).

قال ابن القيم – رحمه الله -: “وَكَانَ [صلى الله عليه وسلم] يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثّلَاثِ وَهَذَا أَنْفَعُ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَكَلَاتِ فَإِنّ الْأَكْلَ بِأُصْبُعٍ أَوْ أُصْبُعَيْنِ لَا يَسْتَلِذّ بِهِ الْآكِلُ وَلَا يُمْرِيهِ وَلَا يُشْبِعُهُ إلّا بَعْدَ طُولٍ .. وَالْأَكْلُ بِالْخَمْسَةِ وَالرّاحَةِ يُوجِبُ ازْدِحَامَ الطّعَامِ عَلَى آلَاتِهِ وَعَلَى الْمَعِدَةِ .. وَلَا يَجِدُ لَهُ لَذّةً وَلَا اسْتِمْرَاءً، فَأَنْفَعُ الْأَكْلِ أَكْلُهُ
[صلى الله عليه وسلم] وَأَكْلُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ بِالْأَصَابِعِ الثّلَاثِ”([4]).

 

أكل المرء مما يليه

لحديث عمرَ بنِ أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر النبي [صلى الله عليه وسلم] وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: (يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)([5]).

وهذا أدبٌ رفيع، ينبغي للمرء أن يلتزمه، ويربي أولاده عليه، لأن الأكل من موضع أكل الناس فيه سوء أدب واضح، ويتقذر الآكلون من هذا الفعل.

ومحل هذا الأدب إذا كان الطعام نوعا واحدا، أما إذا كان أنواعا متعددة فلا حرج أن يتتبع الإنسان الطعام الذي يريده، ولو كان مما لا يليه، وعلى هذا يحمل أنس بن مالك
[رضي الله عنه] أن خياطا دعا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] إلى ذلك الطعام، فقَرَّبَ إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] خبزا من شعير ومرقا فيه دباء وقديد – والدباء هو القرع، والقديد: هو اللحم المملح المجفف بالشمس -، قال أنس: فرأيت رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] يتتبع الدباء من حوالي الصحفة، فلم أزل أحب الدباء بعد يومئذ ([6]).

وهكذا لو كان الإنسان يأكل وحده فلا بأس أن يأكل من الطرف الآخر لأنه لا يؤذي أحدا بذلك، لكن لا يأكل من أعلى الإناء لأن البركة تنزل في أعلاه، بل يأكل من الجوانب.

 

تقديم الأكبر.

وهذا من تقدير الأكبر واحترامه سواء كان الأكبرَ في سنه أو في علمه وقدره، لحديث حذيفة
[رضي الله عنه] قال: كنا إذا حضرنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] طعاما لم نضع أيديَنا حتى يبدأ رسولُ الله
[صلى الله عليه وسلم] فيضعَ يده ([7]).  

قال القاضي عياض: “هذا من أدب الأكل ألا يُتقدَّمَ الكبيرُ والفاضل والمعظم، لا في غسل اليد ولا في ابتداء الطعام ولا الشراب، إلا أن يؤاكلَهم صاحبُ الطعام، فقد استحبوا أن يكون هو البادئَ للحاضرينَ بالغسلِ والأكل لتنشيطهم بذلك”([8]).

صفة الجلوس على الطعام

يحسن بالمسلم أن يجلس جِلسةً تجمعُ بين التواضع والأدب والصحة، فيبتعد عن هيئة المتكبرين المتغطرسين في أكلهم، ويبتعد عن كل جلسة تضره في بدنه، بما يذكره أهل الاختصاص.

وكذا لا يجلس جلسة المطمئن المستقر، لأن ذلك يكون سببا لإكثار الطعام، وإكثار الطعام لا ينبغي، كما قال
[صلى الله عليه وسلم]: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) ([9]).

وقد جاءت السنة بصفة جلوسه [صلى الله عليه وسلم] في حديثين:

الأول: عن عبد الله بن بسر [رضي الله عنه] قال: أهديت للنبي [صلى الله عليه
وسلم] شاة، فجثا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على ركبتيه يأكل، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال
[صلى الله عليه وسلم]: (إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا)([10]).

الثاني: عن أنس بن مالك [رضي الله عنه] قال: رأيت النبي [صلى الله عليه وسلم] مقعيا يأكل تمرات ([11]).

والإقعاء: أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه، وقد جثا على ركبتيه. 

وقد جاءت الإشارة إلى اجتناب جلستين في الأكل:

الأولى: الأكل متكئ

لحديث أبي جحيفة [رضي الله عنه] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صلى الله عليه وسلم]: (لَا آكُلُ مُتَّكِئًا) ([12]).

ومعنى الاتكاء: كل جِلْسة يكون الآكل فيها متمكناً مطمئناً، لأن ذلك مدعاه ليأكل كثيراً، وهو مذموم شرعاً .

قال الإمام النووي :”وَمَعْنَاهُ: لَا آكُل أَكْل مَنْ يُرِيد الِاسْتِكْثَار مِنْ الطَّعَام وَيَقْعُد لَهُ مُتَمَكِّنًا, بَلْ أَقْعُد مُسْتَوْفِزًا, وَآكُل قَلِيلًا”([13]).

ومن صور الاتكاء: أن يتكئ على يده اليمنى أو اليسرى وهو يأكل، وهذا فيه ملحظ نفسي وبدني، أما النفسي فلأن هذه الصفة تشعر بالكبر والترفع، وأما البدني فلأن مجرى الطعام يكون مائلا، وليس مستقيما، وهذا ربما يضر الإنسان. ووصفها ابن القيم بأنها أردأ جلسات الأكل ([14]).

الثانية: الأكل منبطح

لحديث ابن عمر قال: نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن مطعمين: عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل الرجل وهو منبطح على بطنه ([15]).

فإذا اجتنب المرء ما وردت كراهته، فلا بأس أن يجلس أي جلسة تناسبه في طعامه مراعيا الضوابط السابقة.

وقد كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يأكل على الأرض، وقال: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) ([16]).

وعن أنس [رضي الله عنه] قال: لم يأكل النبي [صلى الله عليه وسلم] على خِوان حتى مات، ولم يأكل خبزا مرققا حتى مات ([17]).

والخوان: هو ما يوضع عليه الطَّعام، ويكون مرتفعا عن الأرض قدر ذراع، ويكون الآكل جالسا على الأرض ([18]).

قال الحافظ ابن حجر: (تَرْكُهُ عليه الصلاة والسلام الأكلَ على الخوان، وأكلَ المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة).

وقال ابن القيم: “وَكَانَ مُعْظَمُ مَطْعَمِهِ يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ فِي السّفْرَةِ وَهِيَ كَانَتْ مَائِدَتَهُ”([19]).

ولا بأس بالأكل على الطاولة، وهو مباح لا ينكر، وليس في ذلك تشبه بالكفار لأنه ليس مما يختص بهم  ([20]).

فالأكل على الأرض أحسن لأنه أقرب إلى التواضع، وفيه اقتداء بفعله [صلى الله عليه
وسلم]، والأكل على الكرسي والطاولة مباح لا حرج فيه. 

بارك الله ..

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

الاجتماع على الطعام.

وهذا أدب نبوي، وهو من أسباب حلول البركة في الطعام، ودل على ذلك أحاديث منها:

عن وحشي بن حرب [رضي الله عنه] قال: قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع! قال: (تجتمعون على طعامكم أو تتفرقون؟) قالوا: نتفرق، قال: (اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله تعالى يبارك لكم فيه) ([21]).

وعن جابر [رضي الله عنه] قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)([22]).

وهو مظهر من مظاهر الاجتماع الذي يؤكده الدين ويحث عليه.

عن جابر [رضي الله عنه] عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي) ([23]).

الأكل من طرف الإناء دون أعلاه ووسطه

عن ابنِ عباسٍ عن النبيِّ [صلى الله عليه وسلم] قال: (إذا أكلَ أحَدُكم طعاماً فلا يَأكُلْ مِن أعلى الصَّحْفة، ولكن ليأكُل مِن أسْفَلِها؛ فإنَّ البَركَةَ تَنْزِلُ مِن أعلاهَا)([24]).

وعن ابن عباس، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (كلوا في القصعة من جوانبها، ولا تأكلوا من وسطها، فإن البركة تنزل في وسطها)([25]).

فدل الحديثان على هذا الأدب: أن يكون الأكل من جوانب الإناء، ولا يأكل من وسطه أو أعلاه، لأن البركة – وهي النماء والزيادة – تنزل في وسط الإناء وأعلاه، فإذا أكل هذا الموضع خلا الإناء من البركة.

اللهم ..

 

([1]) رواه مسلم: (2020).

([2]) رواه مسلم: (2021).

([3]) رواه مسلم: (2032).

([4]) زاد المعاد: (4/ 204).

([5]) رواه البخاري: (5376), ومسلم: (2022).

([6]) رواه البخاري: (2092), ومسلم: (2041).

([7]) رواه مسلم: (2017).

([8]) (إكمال المعلم) (6/483).

فائدة: جاء عن أبي إدريس الخولاني مرسلا: (إذا وضع الطعام فليبدأ أمير القوم أو صاحب الطعام أو خير القوم) رواه ابن عساكر: (3/290/1)، وضعفه الألباني في الضعيفة: (2718).

([9]) رواه ابن ماجه: (3349), وصححه الألباني في الصحيحة: (2265). عن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
[رضي الله عنه] .

([10]) رواه أبو داود: (3773), وابن ماجه: (3263), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (1740).

([11]) رواه مسلم: (2044).

([12]) رواه البخاري: (5398).

([13]) شرح مسلم للنووي: (13/227).

([14]) زاد المعاد: (4/222).

([15]) رواه أبو داود: (3774), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (6874). انظر: الصحيحة: (2394).

([16]) رواه البغوي في شرح السنة: (13/ 248), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (7). عن عائشة رضي الله عنها.  انظر: الصحيحة: (544)

([17]) رواه البخاري: (5415).

([18]) انظر في تفسيره: النهاية لابن الأثير: (2/ 183)، عمدة القاري: (21/ 35). وفي عون المعبود: (الخوان بضم الخاء يكون من خشب وتكون تحته قوائم من كل جانب والأكل عليه من دأب المترفين لئلا يفتقر إلى التطاطؤ والانحناء).

فائدة: جاء عن أنس [رضي الله عنه] قال: مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ [صلى الله عليه
وسلم] أَكَلَ عَلَى سُكرجَةٍ قَطُّ، وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ. رواه البخاري: (5386)، وفي (النهاية): (2/ 968): “هي بضم السين والكاف والراء والتشديد: إناءٌ صغيرٌ يُؤكل فيه الشيء القليلُ من الأُدْم وهي فارسية. وأكثرُ ما يوضع فيها الكَوَامخ، وهي ما يؤتدم به”. وقال ابن حجر في (فتح الباري) (5386): “قَالَ شَيْخُنَا فِي (شَرْحِ التِّرْمِذِيّ): تَرْكُهُ الْأَكْلَ فِي السُّكُرُّجَةِ ؛ إِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ تُصْنَعُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ ، أَوِ اسْتِصْغَارًا لَهَا ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَكْلِ، أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعَدُّ لِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ ، وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبًا يَشْبَعُونَ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ بِالْهَضْمِ”.

([19]) (زاد المعاد) (1/ 142).

([20]) فتوى اللجنة الدائمة: ( 26/309).  

([21]) رواه أبو داود: (3764), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (142).

([22]) رواه مسلم: (2059).

([23]) رواه أبو يعلى: (2045)، والطبراني في “الأوسط”: (7313) وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (171).

([24]) رواه أبو داود: (3772), وصححه الألباني في الإرواء: (1980).

([25]) رواه أحمد: (2439), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (4502).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى