خطب الجمعةخطب نصية

الخشوع في الصلاة (1)

إن الحمد لله .. أما بعد .. اتقوا الله ..

أيها الإخوة .. لقد شرع الله الصلاةَ ليتصل العبدُ بربه، فيعظمُهُ ويناجيهِ ويدعوهُ بما يريدُ من خيرات الدنيا والآخرة، فالصلاةُ عمودُ الدين، وقرةُ العيون، ولذةُ الأرواحِ، وربيعُ الأبرارِ، ونعيمُ الأخيارِ، وشفاءُ القلوبِ، وبردُ الأكبادِ، فرضها الله من فوق سبع سماوات وهي الميزانُ بين الإسلام والكفر، وهي أولُ ما يحاسبُ عنه العبدُ يومَ القيامة فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت رُدَّ عليه سائرُ عملِهِ، الصلاةُ من أوائلِ الفرائض، وآخرُ الوصايا فحين كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سكراتِ الموتِ أوصى أُمَّتَه: الصلاةَ الصلاةَ.

لن أتحدثَ عن أهمية الصلاة، ولا عن أركانها أو شروطها أو واجباتها، ولا عن حكمِ تاركها، ولكني أتحدثُ عن روحها ولُبِّها.

أيها الإخوة .. ما بالنا لا نجدُ لذةً وأُنساً في الصلاة؟ وما بالنا لا نجدُ أثرَ زيادةِ الإيمانِ بعد الصلاة؟ وما بالنا نتثاقلُ الصلاةَ إذا أطالَ الإمامُ قليلا، ولا نتحملُ الإطالةَ في صلاتنا فرضا أو نفلا؟ وما بالنا نشتكي من كثرة الوساوس والخواطر والأفكار في الصلاة حتى لا يدري المرءُ كم صلى؟ وماذا قرأ الإمامُ؟ ويسهو الإمامُ ولا ينبهه في المسجد إلا الواحد والاثنان بل ربما لا ينبهه أحد؟.

إن هذه الأمورَ كلَّها مظاهرُ لمشكلةٍ نعاني منها جميعا، ألا وهي: التقصيرُ في الخشوع في الصلاة. الصلاةُ صورةٌ وحقيقة، فصورتها: القيامُ والقعودُ والركوعُ والسجودُ، وحقيقتها: الخشوعُ وحضورُ القلب، والعبرةُ في الأشياء بحقائقها لا بصورها.

إن كثيراً من الناس يتساءلون: ما بال بعض الناس يؤدون الصلاةَ فلا تأمرهم بمعروف ولا تنهاهم عن منكرٍ وفحشاء، وقد قال الله سبحانه: {إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ}[النحل: 90]، الجواب باختصار: أنهم يؤدون صلاةً بلا روح، صلاةً لا خشوع فيها.

الصلاةُ الخاشعةُ من أعظمِ ما يعينُ المسلمَ في مواجهة الحياة بهمومها ومشكلاتها وضغوطها {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة: 45], نعم؛ الصلاةُ شاقةٌ وثقيلةٌ إلا على الخاشعين، فالخشوعُ روحُ الصلاة ولبها، فصلاةٌ بلا خشوعٍ كجسدٍ بلا روح.

الخشوع مقامٌ عظيم من أعمال القلوب، وهو أولُ ما يرفع، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أولُ شيءٍ يرفعُ من هذه الأمةِ الخشوعُ حتى لا ترى فيها خاشعا) [ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: (2/136), وقال: رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن, وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2569). ] .

وقال حذيفة رضي الله عنه: (أول ما تفقدونَ من دينكم الخشوعُ، وآخرُ ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصلٍ لا خير فيه، ويوشكُ أن تدخل المسجد فلا ترى فيهم رجلا خاشعًا) [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: (34808)، وأبو نعيم في حلية الأولياء: (1/ 281)، وقال المناوي في فيض القدير: (3/ 114): (قال الزين العراقي في شرح الترمذي وتبعه الهيثمي: فيه عمران القطان ضعفه ابن معين، والنسائي، ووثقه أحمد).] .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن وجهَ دينكمُ الصلاةُ فزينوا وجهَ دينكم بالخشوع) [ذكره ابن الأثير في (جامع الأصول) 5/360 وعزاه إلى الموطأ, ولم أجده فيه.] .

ومن القواعدِ المقررةِ أن العباداتِ والقرباتِ تتفاضلُ عند الله بتفاضلِ ما في القلوبِ من الإيمانِ والإخلاصِ والمحبةِ والخشية والخشوع والإنابة.

قال حسانُ بن عطية رحمه الله: (إن الرجلينِ ليكونانِ في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماءِ والأرض) [الوابل الصيب لابن القيم (36) . وجاء في الحلية: (5/167): عَنْ شُفَيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: ” إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونَانِ فِي الصَّلَاةِ مَنَاكِبُهُمَا جَمِيعًا، وَلَمَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَإِنَّهُمَا لَيَكُونَانِ فِي بَيْتٍ صِيَامُهُمَا وَاحِدٌ وَلَمَا بَيْنَ صِيَامِهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ”.] .

ومما تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم منه أن قال: (اللهم إني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع) [رواه أحمد: (14023)، والنسائي: (5470) عن أنس رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح النسائي.] .

 

أيها الإخوة .. إن الصلاةَ ميدانٌ بين العبد وبين الشيطان يريد أن يفسدَها عليه ويصرفَه عنها بالوساوسِ والأفكار والخواطر لأنه حريصٌ على إفسادِ أعمالنا، ومن أعظمِ عباداتنا الصلاةُ، لذا فهو يسعى غايةَ جهدهِ في صرفِ العبدِ عن صلاته، بيَّنَ ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا نودي بالصلاةِ أدبرَ الشيطانُ وله ضراطٌ حتى لا يسمعَ التأذينَ، فإذا قضي الأذانُ أقبلَ، فإذا ثُوِّبَ – يعني أقيمت الصلاة – أدبرَ، فإذا قُضي التثويبُ أقبلَ حتى يخطرَ بين المرءَ ونفسه يقولُ: اذكرْ كذا، اذكرْ كذا لما لم يكن يذكرُ من قبلُ، حتى يظلَّ الرجلُ ما يدري كم صلى) [رواه البخاري: (608), ومسلم: (389).] .

 

الخشوع  أيها الأحبة  حالةٌ في القلبِ تنبعُ من أعماقه مهابةً لله وتوقيراً، وتواضعاً في النفس وتذللاً. لينٌ في القلب، ورقةٌ تورث انكساراً وحرقة.

الخُشوعُ أصلُه في القلب، ثم ينبعثُ أثرُ ذلكَ على البَدَنِ والصوْتِ والبصرِ، كما قال تعالى: {خاشعةً أَبصارهُم} [القلم: 43]؛ {وخَشَعَتِ الأَصواتُ للرحمن} [طه: 108], أما الخُضوعُ فهو في البدن.

رأى بعضُ السلفِ رجلاً يعبثُ بيدهِ في الصلاةِ فقال: (لو خشعَ قلبُ هذا لخشعت جوارحُهُ) [رواه ابن المبارك في الزهد (ص: 419)، وعبدالرزاق: (2/ 266), (3308)، وابن أبي شيبة: (2/ 289) (6854)، موقوفا على سعيد بن المسيب. وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (110): “فالحديث موضوع مرفوعا، ضعيف موقوفا بل مقطوعا، ثم وجدت للموقوف [على سعيد] طريقا آخر؛ فقال أحمد في مسائل ابنه صالح: (ص: 83): حدثنا سعيد بن خثيم قال حدثنا محمد بن خالد عن سعيد بن جبير قال: نظر سعيد إلى رجل وهو قائم يصلي … إلخ. قلت: وهذا إسناد جيد، يشهد لما تقدم عن العراقي أن الحديث معروف عن ابن المسيب”. اه.] .

 

وتكلم العلماء كثيرا عن معنى الخشوع، ومما قيل فيه:

الخشوع: (خشيةٌ من الله تكونُ في القلبِ فتظهرُ على الجوارح) [أضواء البيان: (5/ 305)] .

وقيل: (هو السكونُ والطمأنينةُ والتؤدةُ والوقارُ والتواضعُ، والحاملُ عليه الخوفُ من الله ومراقبتُه) [تفسير ابن كثير: (3/ 488).] .

وقيل: (هو قيامُ القلبِ بين يدي الربِّ بالخضوعِ والذلِ) [مدارج السالكين: (1/ 516).] .

قال ابن رجب رحمه الله: (أصلُ الخشوعِ لينُ القلبِ ورِقتُهُ وسكونُهُ وخضوعهُ وانكسارهُ، فإذا حصل له ذلك تبعهُ خشوعُ جميعِ الجوارحِ والأعضاءِ لأنها تابعةٌ له) [الخشوع لابن رجب (ص17). وقال ابن سعدي في تفسيره ص547: “الخشوع في الصلاة هو: حضورُ القلبِ بين يدي اللهِ تعالى، مستحضراً لقربهِ، فيسكنُ لذلك قلبُه، وتطمئنُ نفسُهُ، وتسكنُ حركاتُهُ ويَقِلُّ التفاتُه، متأدباً بين يدي ربهِ، مستحضراً جميعَ ما يقولُهُ ويفعلُهُ في صلاتِه، من أولِ صلاتِهِ إلى آخرِها، فتنتفي بذلك الوساوسُ والأفكارُ الرديئة. وهذا روحُ الصلاةِ، والمقصودُ منها، وهو الذي يكتبُ للعبد”.] .

الفلاحُ كلمةٌ جامعةٌ تعني الفوزَ بالمطلوبِ، والسلامةَ من المرهوبِ، وقد حقَّقهُ اللهُ للمؤمنين، فقال: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1]، فكأن سائلا سأل: من هم؟ وما صفاتُهم؟ فجاءت صفاتهم مباشرةً وأولها {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2].

رُوي عن مجاهد في قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ}[البقرة: 238] قال: (القنوت: الركون والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح) [تفسير ابن رجب, جمع السلامي: (2/ 19).] .

وقال تعالى في معرضِ الثناءِ على زكريا عليه السلام وآلِ بيته: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خشِعِينَ}[الأنبياء: 90].

ووصفَ اللهُ عبادَه الذين أعدَّ لهم مغفرةً وأجرا عظيما بعشرِ صفاتٍ منها الخشوعُ، فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 35].

وامتدح جلَّ وعلا أولي العلم الذين إذا سمعوا القرآن خروا سجداً خاشعين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107- 109].

واستبطأ – سبحانه وتعالى – الخشوعَ من المؤمنينَ فعاتبهم قائلاً: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما كانَ بين إسلامنا وأن عوتبنا بهذه الآيةِ إلا أربعَ سنين) [رواه مسلم (3027). ] .

وقال مجاهد وغير واحد من السلف في قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[الفتح: 29]: يعني: (الخشوع والتواضع) [تفسير الطبري: (22/264).] .

 

أما القلوبُ التي لا تعرف الخشوعَ .. أما القلوبُ القاسيةُ فقد حذَّرها جلَّ وعلا وزَجَرها، ولم يسوِّ بينها وبين القلوبِ العامرةِ بذكرِهِ فقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].

ما أعظمَ الذلَّ بين يدي العزيزِ فهو تمامُ العزِّ، والسجودُ أعظمُ ما يَظهرُ فيه ذلُّ العبدِ لربِّهِ عزَّ وجلَّ حيث يجعلُ العبدُ أشرفَ أعضائِهِ وأعزَّها عليهِ وأعلاها عليه – وهو الوجهُ – يجعله أوضعَ ما يكونُ بين يدي ربه، فيضعُهُ على الأرضِ ويتبعُ ذلك انكسارُ القلبِ وتواضعُه وخشوعُه للهِ عز وجل، ولهذا كان جزاءُ المؤمنِ إذا فعلَ ذلك أن يقربَهُ اللهُ إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم : (أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربهِ وهو ساجدٌ) [رواه مسلم.]

الخشوعُ سببٌ لمغفرةِ الذنوبِ وتكفيرِ السيئاتِ، عن عثمانَ رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( ما مِنْ امرئٍ مسلمٍ تحضرهُ صلاةٌ مكتوبةٌ فيحسنُ وضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوبِ ما لم يؤت كبيرةً وذلك الدهرَ كلَّه) [رواه مسلم: (228). ] .

وعن عبادة رضي الله عنه مرفوعا: (خمسُ صلواتٍ افترضهنَّ اللهُ تعالى، مَنْ أحسنَ وضوءَهن، وصلاَّهُنَّ لوقتهنَّ، وأتمَّ ركوعَهُنَّ وخشوعَهُنَّ؛ كان له على الله عهدٌ أن يغفرَ له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهدٌ؛ إن شاء غفرَ له، وإن شاء عذَّبَهُ) [رواه أبو داود: (425), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3242). وعن عثمان رضي الله عنه مرفوعا: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه بشيء؛ غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري: (159), ومسلم: (226)] .

وفي حديث عمرو بن عبسة الطويل قال صلى الله عليه وسلم: (فإن هو قامَ فصلى فحمدَ اللهَ وأثنى عليه ومجَّدَهُ بالذي هو له أهلٌ وفَرَّغَ قلبَه لله إلا انصرفَ من خطيئته كهيئته يومَ ولدتهُ أمُّهُ) [رواه مسلم: (832). ] .

 

أيها الإخوة .. إن مما يبينُ منزلةَ الخشوعِ أن ثوابَ الصلاةِ وأجرها على قدرِ الخشوعِ وحضورِ القلبِ فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجلَ لينصرفَ وما كُتِبَ له إلا عُشرُ صلاتِهِ، تُسعها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خُمسها، رُبعها، ثُلثها، نصفها) [رواه أبو داود: (796), وأحمد: (18894), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (1626).] .

وقال ابن عباس: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها) [ذكره ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 525)، ومواضع أخرى من كتبه.
وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (14/1206)، برقم (6941): “لا أصل له مرفوعاً، وإنما صح موقوفاً عن بعض السلف .. وإنما رواه أبو نعيم في (الحلية) 7/ 61 بإسناد صحيح عن قاسم الجرمي: سمعت سفيان الثوري يقول: (يكتب للرجل من صلاته ما عقل منها)”.]
.

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

الحمد لله ..

الخشوعُ في الصلاة هو حقيقةُ الصلاةِ، فإذا خشعَ العبدُ أثمرت الصلاةُ ثمارها فنهت صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ونوَّرت قلبَه بنورِ الصلاةِ، ووجدَ فيها الراحةَ والأنسَ، وذاق طعمَ العبادةِ وحلاوةِ المناجاةِ كما كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال) [رواه الطبراني في الكبير: (6215), ورواه ابو داود: (4985) بلفظ: (يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها), ولأحمد (23088): (يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (7892). ] .

وكان صلى الله عليه وسلم ( إذا حَزَبَهُ أمرٌ فَزَعَ إلى الصلاةِ) [رواه أبو داود (1319), وأحمد في المسند: (5/ 388)، وحسنه الألباني صحيح سنن أبي داود برقم (1192), وفي صحيح الجامع (4703). ] .

وقال صلى الله عليه وسلم: (وجُعلتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة) [رواه النسائي: (3940), وأحمد: (12294), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3124). ] .

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحدَكم إذا قامَ يُصلِّي إنما يقومُ يُناجي ربَّهُ فلينظرْ كيف يُناجيه) [رواه ابن خزيمة (474), والحاكم (861), وصححه الألباني في صحيح الجامع (1538) عن أبي هريرة رضي الله عنه.] .

ولذا لا نتعجبُ حين نسمعُ أنه صلى الله عليه وسلم صلى مرة فقرأ البقرةَ والنساءَ وآل عمران في ركعةٍ واحدة يقرأُ مترسلاً إذا مرَّ بآية فيها تسبيحٌ سبَّحَ، وإذا مرَّ بسؤالٍ سألَ، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذَ، ثم ركعَ فقال: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعُهُ نحوا من قيامه، ثم رفعَ رأسَه فقال: سمعَ اللهُ لمن حمده، فكان قيامُهُ قريبا من ركوعه، ثم سجدَ فجعلَ يقولُ: سبحانَ ربي الأعلى، فكان سجودُهُ قريباً من ركوعِهِ [رواه مسلم: (772). عن حذيفة رضي الله عنه .]

إنه الخشوعُ الذي تغلغلَ في القلوبِ الحيةِ التي تعلقت بربها، فصارت الصلاةُ نعيما ولذةً لا يعدلُها شيءٌ من لذاتِ الدنيا، وأيُّ نعيمٍ يعادلُ أن يناجيَ العبدُ ربَّهُ يتلو كلامَه، ويسبِّحَهُ بحمده، ويثنيَ عليه، ويسألَه حاجاتِه، ويشكي إليه كرباتِه، فلله ما أجملَ الصلاةَ وما أطيبها إذا حضرَ القلبُ وسكنت الجوارح.

كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حان وقتُ الصلاة يضطربُ ويتغيرُ، فلما سئلَ قال: (لقد آن أوانُ أمانةٍ عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها) [الإحياء (1/151). ] .

وكان عبد الله بن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عودٌ، وكان يقول: (ذلك من الخشوع في الصلاة) [الحلية (1/335).] .

ووقع حريقٌ في بيتٍ فيه علي بن الحسين رحمه الله وهو ساجدٌ يصلي، فجعلوا يقولون له: (يا ابن رسول الله ! النار، يا ابن رسول الله ! النار، فما رفع رأسَه حتى طُفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها ؟ قال: ألهاني عنها النارُ الأخرى) [تهذيب الكمال (13 /241), وسير أعلام النبلاء (4 /391).] الخشوع : 2 .

وصلى عبادُ بن بشر رضي الله عنه ليلةً وهو يحرسُ المسلمين فرماهُ كافرٌ بسهم فنزعه واستمرَّ في صلاته، فرماه بثانٍ فنزعه، حتى رماه بثلاثةِ أسهمٍ، ثم ركعَ وسجدَ فانتبه صاحبُه، فلما رأى ما به، قال: سبحان الله أفلا أنبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها!

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

 

أيها الإخوة .. هذه إشارةٌ إلى منزلةِ الخشوع في الصلاة ومكانتِها، ولعل سائلا يسأل: كيف السبيل إلى تحصيل هذا الخشوع في صلاتنا؟ فهذا له حديث آخر إن شاء الله يضيق الوقت عنه في هذه الخطبة.

اللهم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى