خطب الجمعةخطب نصية

الإيمان (4) (أسباب زيادة الإيمان ونقصانه)

إن الحمد لله .. اتقوا الله .. أما بعد

عباد الله .. إن الإيمان ركنٌ ركين، وأصلٌ متين من أصول الدين، وهو من الغيب الذي يُصدِّقُ به المؤمن ويوقنُ به.

وهذا الإيمان أصله في القلب، وهو يزيد وينقص كما دل على ذلك الأدلةُ الشرعية، واتفق عليه سلفُ الأمة، وسبق بيان ذلك في خطبة سابقة.

ولذا اعتنى سلف الأمة وخيارُها بأمر الإيمان وتفقده، والحرصِ على زيادته، وسقي شجرته في القلب.

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: (هلموا نزددْ إيمانًا – فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ-) [رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: (1700). وفي لفظ: كَانَ عُمَرُ مِمَّا يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ وَالرَّجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَيَقُولُ: «قُمْ بِنَا نَزْدَدْ إِيمَانًا» رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: (30366).] . وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم زدني إيمانًا ويقينًا وفقهًا) [رواه الخلال في السنة: (1120), وابن بطة في الإبانة: (1132).] , ويقول: (اجْلِسُوا بِنَا نَزْدَدْ إِيمَانًا) [رواه البيهقي في الشعب: (44). ] , وكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: (تعالوا نؤمنْ ساعة، تعالوا فلنذكرِ الله ولنزددْ إيمانًا بطاعته، لعله يذكرنا بمغفرته) [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: (30426).] .

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: (من فقه العبد أن يعلم أمُزداد هو أو منتقص – أي من الإيمان-، وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه) [رواه الخلال, في السنة: (1585), وابن بطة في الإبانة: (1140 ).] , وكان عمير بن حبيب الخطمي [قال ابن عبد البر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب – (3/ 1213) – : (هو جد أَبِي جَعْفَر الخطمي، يقال: إنه ممن بايع تحت الشجرة, من الأنصار ، رَوَى عَنِ النَّبِيّ صلى لله عليه وسلم) بتصرف. ] رضي الله عنه يقول: (الإيمان يزيد وينقص، فقيل: وما زيادته ونقصانه؟! قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه) [رواه السراج, في حديثه: (1941).] .

وسئل الأوزاعي – رحمه الله – عن الإيمان أيزيد؟ قال: نعم، حتى يكون كالجبال، قيل: فينقص؟ قال: نعم، حتى لا يبقى منه شيء [رواه اللالكائي, في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: (1740). وقال سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ: (الْإِيمَانُ قَوْلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَا تَقُلْ: يَزِيدُ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: اسْكُتْ يَا صَبِيُّ، بَلْ يَنْقُصُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ ) المرجع السابق: (1745).] .

و قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ- رحمه الله -: (الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ) [رواه الخلال, في السنة: (1011).] .

ومن ها هنا كان حريا بكل مؤمن أن يسعى ويحرصَ في زيادة إيمانه، ويحذرَ من نقصانه، كما يسعى في زيادة ماله، ويحذرَ من نقصانه. فإن قال قائل: كيف السبيل إلى زيادة إيماني، وترقيته في مراقي الصعود؟ فأقول: لذلك أسباب نوردها ونذكِّر بها؛ فمنها:

1. التعرف على الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى

نعم، فالتعرف على الله أشرفُ العلوم، وأعلى المطالب، فلله الأسماء الحسنى والصفات العلى، فطلبها وتعلمها والتعبد بها من نفيس العلم وشريفه، ومن أعظم ما يصلح القلب، ويزيد في الإيمان واليقين، ويورث المحبة والخشية والإخلاص، وهذه الأسماء مبثوثةٌ في نصوص الكتاب والسنة، وقد اجتهد العلماء في تتبعها وشرحها، وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: (إن لله تسعةً وتسعين اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة) [رواه البخاري: (7392), ومسلم: (2677).] ، والمراد بإحصائها في الحديث: (إحصاء ألفاظها، وفهم معانيها، ودعاء الله بها دعاء عبادة ودعاء مسألة) [(ملخص من ابن القيم، بواسطة: زيادة الإيمان/ البدر ص206).] .

ومن قويت معرفته بربه؛ انفتحت له أبواب المعارف، وانبعثت نفسه للطاعة والعبادة، وعظمت خشيته من ربه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28], وقال بعض السلف: من كان بالله أعرف؛ كان منه أخوف.

قال ابن القيم – رحمه الله-: (وليست حاجةُ الأرواح قط إلى شيء أعظمَ منها إلى معرفة باريها وفاطرها ومحبتِه وذكرِه والابتهاج به، وطلبِ الوسيلة إليه والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلمَ كان بالله أعرفَ وله أطلب واليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل واليه أكره ومنه أبعد، والله تعالى ينزل العبد من نفسه حيث ينزله العبد من نفسه ..) [الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: (ص3). وقال في (الفوائد) ص69: “القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال فتخضع الأعناق وتنكسر النفوس وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها بحب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله فيصبح فؤاد عبده فارغا إلا من محبته ..”.] .

فبادر أيها الفاضل، وسرح العقل مع القلب في سياحة فكر ونظر، فتستحضرُ ربا عظيما مستويا على عرشه، متكلما بأمره ونهيه، بصيرا بالوجود كله علويه وسفليه، سميعا للأصوات كلها، رقيبا على الضمائر، عليما بالسرائر، موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال، منزها عن العيوب والنقائص والمثال، حي لا يموت، قيوم لا ينام، بصيرٌ يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميعٌ يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات، تمت كلماته صدقا وعدلا، وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبها ومثلا، وتعالت ذاته أن تشبه شيئا من الذوات أصلا، هو الغني والخلق مفتقر إليه

يامن إليه جميع الخلق يبتهل *** وكل حيٍّ على رحماهُ يتكلُ
أنت الملاذ إذا ما أزمةٌ شمِلت *** وأنت ملجأُ من ضاقت به الحيلُ
أنت المنادى به في كل حادثة *** أنت الإلهُ وأنت الذخرُ والأملُ
أنت الغياثُ لمن سدت مذاهبُه *** أنت الدليلُ لمن ضلت به السبلُ

 

2. قراءة القرآن الكريم بالتدبر

القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وَوَصَفَهُ من تكلم به بأنه هدى ورحمةٌ وشفاءٌ وبشرى، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} [النحل:89 ]، والغاية من إنزال القرآن هي تدبره والعمل به {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته}[ص :29]، وحث ربنا على تدبر كتابه {أفلا يتدبرون القرآن ولو .. }[النساء:82], {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد:24].

قال علي رضي الله عنه: (لا خير في قراءة لا تدبر فيها) [رواه الدرامي موقوفاً: (1/ 89), في المقدمة، باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله. قال محققا جامع الأصول – (11/15)-: إسناده ضعيف.] . وقال ابن القيم: (فتبارك الذي جعل كلامَه حياةً للقلوب وشفاءً لما في الصدور، وبالجملة فلا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين) [مفتاح دار السعادة: (1/ 187).] .

وصفة التدبر: (أن يشغل قلبَه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية ويتأمل الأوامر والنواهي ويعتقد قبول ذلك، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذابٍ أشفق وتعوذ، أو تنزيهٍ نزَّه وعظم، أو دعاءٍ تضرع وطلب).

ويكون ذلك بتلاوة يشترك فيها اللسان والعقل والقلب، اللسانُ في تصحيح الحروف والترتيل، والعقلُ في فهم المعاني وتدبرها، والقلبُ في الاتعاظ والتأثر.

فهذه القراءةُ هي القراءةُ المثمرة التي تزيد الإيمان، وتفتح أبواب الهداية والمعرفة في القلب، لا كحال أكثرنا إذا قرأ يهذُّه هذَّا، وقلبه منشغلٌ عنه.

 

3. النظر في سيرة النبي الكريم صلى لله عليه وسلم

فهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة، بعثه الله رسولا إلى الثقلين بشيرا ونذيرا، وأوجب على العباد طاعته وتوقيره، شرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وكمل له خُلقه.

خلقت مبرأ من كل عيب *** كأنك قد خلقت كما تشاء
فمثلك لم تر قط عيني *** ومثلك قط لم تلد النساء

 

اتباعه طريق الفلاح في الدنيا والأخرى، ومن أسباب زيادة الإيمان في القلب: النظر في سيرة هذا النبي الكريم صلى لله عليه وسلم، وما جرى له في بعثته ودعوته ومغازيه، وتعلمُ أخلاقه وشمائله، فبهذا يمتلئ القلب محبة له، ويزدادُ الإيمان رسوخا وصعودا، وقد كان سلفنا على قدر عظيم في هذا الباب، فقد سئل علي رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى لله عليه وسلم؟ قال: (كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ) [الشفا, للقاضي عياض: (2/22).] .

وقال إسحاق التجيبي: (كان أصحاب النبي صلى لله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا) .

وقال مصعب بن عبد الله: (كان الإمام مالك إذا ذَكر النبيَ صلى لله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه) .

فحري بالمسلم الذي يشهد أن محمدا رسولُ الله أن يعطيه جزءا من وقته واهتمامه، وإن من المحزن المؤسف أن نجد كثيرا من المسلمين يخصصون أوقاتا من أيامهم في قراءة الجرائد، ومتابعة الأفلام والمباريات ونشرات الأخبار وسوق الأسهم، ولا يمضون جزءا منه في قراءة سيرة المصطفى صلى لله عليه وسلم، والتعرف على تفاصيل حياته وأخلاقه.

 

4. التفكر في آيات الله الكونية

وآياته الكونية هي مخلوقاته التي أبدع صنعها كالشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار والأنهار والبحار، والدواب والطيور وغير ذلك، وكثر في القرآن الإشارةُ والحث على التفكر، قال تعالى: }قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ{ [يونس:101 ] }إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون{ [البقرة:164 ] }قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{[العنكبوت:20 ]، فسبحان من أبدع الخلق وأتقنه من الذرة إلى المجرة.

تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

 

5. التقرب إلى الله بالطاعات

فهذا من أسباب زيادة الإيمان الجلية، فيجتهد العبد في أعمال الطاعات عموما ما يتعلق منها بالقلب، كعبادة الإخلاص والمحبة والتوكل والرجاء والخوف والرضى والصبر والتقوى وغيرها، وما يتعلق باللسان كقراءة القرآن وذكر الله عموما والصلاةِ على نبيه صلى لله عليه وسلم، وأعمال الجوارح كالصلاة والصيام والحج والصدقة وطلب العلم ومجالسة الصالحين وغيرها. فيبادر العبد أنفاسه ويغتنمُ عمرَه القصير وأيامَه المعدودة في التزود قبل الرحيل.

وزيادة الإيمان بالطاعات بحسب جنس العمل وكيفيته وكميته، فجنس الفرض أفضل من النفل، وكلما كانت كيفية العمل أحسنَ بتحقيق الإخلاص والمتابعة فيه؛ كانت زيادة الإيمان به أكثر، فرب رجلين يصليان ركعتين نافلة لكن بينهما كما بين السماء والأرض، وأما الكمية فكلما كثر العمل الصالح كثرت زيادة الإيمان به، لأنه يزيد بزيادته.

 

6. ترك المعاصي خوفا من الله

فمن ترك المعصية مع قدرته عليها خوفا من الله لا عجزا أو حياء من الناس أو خوفا من الفضيحة أو لأنها لم تخطر على باله، بل تركها خوفا من الله فليبشر براحة وسعادة يجدها في قلبه، مع ما يدخره الله له من ثواب، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }[النازعات:41 ].

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى