خطب الجمعةخطب نصية

إصلاح البيوت [2]

إن الحمد لله .. اتقوا الله ..

عباد الله .. البيت نواة المجتمع، والأمةُ التي يُنشدُ صلاحُها بيوتٌ تضم أفرادَها، فصلاحُ هذه البيوت صلاحٌ للأمة، وسبق الحديثُ عن أهمية طرقِ الموضوع، وذكرُ معلمين من المعالم الواضحةِ في إصلاح البيوت، وهما: صلاحُ الركنين اللذين يقوم عليهما البيت، وهما الزوجان، وبناءُ البيت على ساق الطاعة لله رب العالمين. ونصلُ اليومَ الحديثَ عن معالم صلاح البيوت، فأقول:

المعلم الثالث: تعليمُ الخير والتربيةُ عليه

نعم .. هكذا يكون البيتُ الصالح، يشاعُ فيه الخير ويعوَّدُ الأولادُ ويُربوا عليه منذ نعومةِ أظفارهم، فالطفلُ الصغير في ذلك البيت يرضعُ مع الحليب الكلمةَ الطيبة، والأدبَ في المعاملة، والترغيبَ في الخير، والتحذيرَ من الشر

وينشأ ناشئ الفتيان منا  ***  على ما كان عوده أبوه

عن معاوية بن أبي سفيان [رضي الله عنه] عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: (الخير عادة، والشر لجاجة)([1]).

ألا فليحرص قائدُ البيت وربته – وهما الوالدان – على نشر الخير وبث الفضيلة في جنبات البيت، وتربيةِ أولادهما على ذلك، ومتابعتِهم في ذلك باهتمام وحرص كالحرص على الطعام والشراب بل أشد. وتأملوا معي أيها الأحبة نموذجا لحرص صاحب البيت على أهل بيته:

حدثت أم سلمة رضي الله عنها فقالت: استيقظ النبي [صلى الله عليه وسلم] ليلةً فزعا فقال: (سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن وماذا أنزل من الفتن! من يوقظ صواحبَ الحُجَر – يريد أزواجَه – حتى يصلين، رب كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة)([2]).

ألا تعلم أيها الحبيب أنك مسئول عن بيتك، فما أعددت لهذا السؤال، وقد جاءك النذير، وبلغك التحذير، قال الله تعالى: }يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة{ [التحريم :6 ]، قال علي
[رضي الله عنه] – في تفسير الآية -: علموهم وأدبوهم.

وقال الضحاك ومقاتل: حقٌ على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه. وقال الحسن: مروهم بطاعة الله وعلموهم الخير.

وفي الحديث المشهور عن ابن عمر قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : (الرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤولٌ عنهم، وامرأة الرجل راعيةٌ على بيت بعلها وولده وهي مسؤولةٌ عنهم، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)([3]).

نعم .. إنها مسؤوليةٌ وتبعة، سؤالٌ ومحاسبة، وقد قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالدَ عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولدَ عن والده.

وأحسن ما يستعان به في ذلك بعد توفيق الله وعونه: المبادرةُ في زمن الصبا حيث يسهلُ توجيهُ الطفلِ والتأثيرُ عليه، كما قال بعضُ الحكماء: (بادروا بتأديب الأطفال قبل تراكم الأشغال وتفرق البال) .

إن الغصونَ إذا قومتها اعتدلت  ***  ولا يلينُ إذا قومته الخشبُ

قد ينفع الأدبُ الأحداثَ في صغرٍ  ***  وليس ينفعُ عند الشيبةِ الأدبُ

تربية أهل البيت على حفظ ما تيسر من القرآن بإلحاقهم بحلق التحفيظ التي تُحفِّظ وتربي وتعلم، إشاعةُ ذكرِ الله في البيت، حكايةُ القصصِ النافعة كقصص الأنبياء والصحابة والصالحين، اجتنابُ الفحش في القول والفعل، الحث على الآداب الإسلامية والتزامُها قبل ذلك، جلبُ الكتب والمجلات والنشرات المفيدةِ المناسبةِ إلى البيت، وتزويده بالمفيد من الوسائط الصوتية والمرئية التي تعلم الخير وتربي عليه.

كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يحرص على بيته، ويشيع فيه الخير والنور، تعليما وتربية، أخبر أنس
[رضي الله عنه] – وهو الذي لازم النبي [صلى الله عليه وسلم] وخدمه عشر سنوات -، فقال: قال لي رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]: (يا بني إذا دخلت على أهلك فسلِّم يكن بركةً عليك وعلى أهل بيتك)([4]).

وفي الحديث أن فاطمة بنت محمد [صلى الله عليه وسلم] حدثت أن النبي [صلى الله
عليه وسلم] كان يعلمها فيقول: قولي حين تصبحين: “سبحان الله وبحمده لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،، فإنه من قالهن حين يصبح حفظ حتى يمسي، ومن قالهن حين يمسي حفظ حتى يصبح”([5]).

ومن الأمور التربوية المهمة التي يُنصح بها ربُّ البيت، أن يعتني بمبدأ النظام والانضباط في البيت، وأن يربى الجميع على ذلك بحزم، فهناك نظام في مواعيد الطعام والنوم والخروج والاستئذان، لا أن يتحول البيت إلى فندق فيه نزلاء ومطعم، كل له نظامه وطعامه ونومه ودخوله وخروجه.

المعلم الرابع: الرفق وحسن المعاملة

إن من أهم المعالم التي يبنى عليها البيت الصالح: الرفق لا العنف، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي
[صلى الله عليه وسلم] قال: (إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق)([6])، ورواه جابر
[رضي الله عنه] عن النبي [صلى الله عليه وسلم] بلفظ: (إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق)([7]).

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال لها: (يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)([8]).

إن من المشاكل الاجتماعية التي طفت على السطح وكثر طرقُها: العنفَ الأسري، وعلاج هذا العنف في كلمة واحدة مما سبق، وهي: التخلق بخلق الرفق.

إن بعضَ البيوتِ تعاني قسوةً وعنفا، يصبح أهلُها على صراخ، ويمسون على خصام ورفع أصوات، فتكون النتيجةُ تفككا ومشكلاتٍ، وآثارا سلوكيةً ونفسيةً غيرَ مَرضيِّة.

ينبغي أن يكون الأب لطيفا قريبا، سهلا لينا،

عن عائشة أنها: سئلت كيف كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان ألينَ الناس، وأكرمَ الناس، كان رجلا من رجالكم إلا أنه كان ضحاكا بساما ([9]).

عن جابر [رضي الله عنه] في سياق حجة الوداع، أن عائشة رضي الله عنها حاضت بعد الإحرام، فدخل رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] عليها فوجدها تبكي، فواساها وطيب خاطرها، وقال: (إن هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم)، وعلمها كيف تفعل في المناسك، ثم لبى رغبتها في عمرة مفردة بعد فراغه من الحج، قال جابر
[رضي الله عنه]: وكان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه ([10]).

وعن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت مع النبي [صلى الله عليه وسلم] في سفر، قالت: فسابقته، فسبقتُهُ على رِجْلَيَّ، فلما حملت اللَحْمَ؛ سابقته فسبقني، فقال: (هذه بتلك السبْقَةِ)([11]).

سبحان الله .. رسول الله الذي يأتيه الوحيُ من السماء، هو رئيسُ الدولةِ الإسلامية، وإمامُ المسجد، وخطيب الجمعة، والقاضي والمفتي، وقائد الجيش، يجد وقتا يسابق زوجته على الأقدام، وهكذا تبنى البيوت على اللطف وحسن العشرة والمعاملة.

سئلت عائشة رضي الله عنها: ماذا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يعمل في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه([12]).

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

تعوَّد نساؤه [صلى الله عليه وسلم] منه اللطفَ واللينَ وحسنَ المعاشرة، حتى قالت عائشةُ في قصة الإفك: فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يُفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] اللطفَ الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليِّ رسولُ الله
[صلى الله عليه وسلم] فيسلم، ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذلك يريبني ([13]).

وكان يُمكِّنها [صلى الله عليه وسلم] من اللعب مع بنات جنسها لصغر سنها، وأراها الحبشة وهم يلعبون في المسجد ([14]).

وكان يلاعب الصبيان ويقبلهم، قبَّل [صلى الله عليه وسلم] الحسنَ بن علي ابنَ بنته يوما وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] ثم قال: (من لا يَرحم لا يُرحم)([15])، وعن يعلى بن مرة
[رضي الله عنه] أنهم خرجوا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى طعام دعوا له، فإذا حسين يلعب في السكة، قال: فتقدم النبي
[صلى الله عليه وسلم] أمام القوم وبسط يديه فجعل الغلام يفر ها هنا وها هنا، ويضاحكه النبي
[صلى الله عليه وسلم] حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى في فأس رأسه – أي قفاه – فقبله وقال: (حسين مني وأنا من حسين، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنْ الْأَسْبَاطِ)([16]).

وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليدلع لسانه للحسن بن علي فيرى الصبي حمرة لسانه فيبهش إليه – أي يسرع –([17]).

وكانت له لمساتٌ رقيقة لها أثرٌ كبير في تقوية الرابطةِ بين أهل البيت، كما قالت عائشة رضي الله عنها: كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي
[صلى الله عليه وسلم] فيضع فاه على موضع في فيشرب، وأتعرق العَرْقَ – وهو العظم الذي عليه بقية من لحم – وأنا حائض ثم أناوله النبي
[صلى الله عليه وسلم] فيضع فاه على

موضع في ([18])، وأقبلت فاطمة ابنتُه
[صلى الله عليه وسلم] يوما تمشي، فلما رآها قال: (مرحبا بابنتي) ثم أجلسها ثم سارَّها ([19]).

إن مما ينبغي أن تُبنى عليه البيوتُ طلبا لصلاحها؛ أن تقوم على الرفقِ وحسنِ المعاملة، واللطفِ والمزاح، والتقدير والاحترام، والمشاورةِ في الأمور حين مناقشة أمور العائلة، وفتحِ المجال للجميع للحديث، والإنصاتِ لكلامه وحسنِ الاستماع باهتمام.

ما أجملَ أن يكون الأبُ في بيته وسطا بين الشدة المنفرة، والتهاونِ والضعف المجرئ على مخالفته واحتقاره، ففي الحديث عن ابن عباس عن النبي
[صلى الله عليه وسلم] قال: (علقوا السوطَ حيث يراه أهلُ البيت فإنه آدبُ لهم) ([20]).

اللهم ..

([1]) رواه ابن ماجه: (221), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (3348).

([2]) رواه البخاري: (115).

([3]) رواه البخاري: (2409), ومسلم: (1829).

([4]) رواه الترمذي (2698), وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1608).

([5]) رواه أبو داود: (5075) وسكت عنه, وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: (4121).

([6]) رواه أحمد: (24427), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (303).

([7]) عزاه صاحب كنز  العمال (5449) إلى: ابن أبي الدنيا في ذم الغضب, والضياء, وصححه الألباني في صحيح الجامع: (1704).

([8]) رواه مسلم: (2593).

([9]) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده: (1750), وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق: (397), وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: (9867).

([10]) رواه مسلم: (1213).

([11]) رواه أبو داود: (2579), وابن ماجه: (1979), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (7007).

([12]) رواه أحمد: (26194), وابن حبان: (5675), وصححه الألباني في صحيح الجامع: (4996).

([13]) رواه البخاري: (2661), ومسلم: (2770).

([14]) رواه البخاري: (454), ومسلم: (892).

([15]) رواه البخاري: (5997), ومسلم: (2318). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
[رضي الله عنه] .

([16]) رواه ابن ماجه: (143), وأحمد: (17561), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (3146).

([17]) رواه البغوي في السنة: (3603), وأبو الشيخ في ” كتاب أخلاق النبي
[صلى الله عليه وسلم] وآدابه ” (ص 90), وصححه الألباني في الصحيحة: (70).

([18]) رواه مسلم: (300).

([19]) رواه البخاري: (3623), ومسلم: (2450). عَنْ عَائِشَةَ
[رضي الله عنه] .

([20]) رواه الطبراني في الأوسط: (4382), وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (4022).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى